*****
مَدِينَةُ الغِياب
للكاتبة حميدة شنوفي
لا تغلقوا الباب
الجزائر تقرأ للنشر والتوزيع
******************************
إلى مَرْضَى ألزْهَايْمر، و إلى كُلِ مُسِنّّي دُورِِ العَجزة فِي كُل أصْقَاعِ العَالم ....مشْوار ُ حياتكُمْْ لمْ يبدأ بعْد...
***
اسْتيقاظ ٌ مبكّر تلتهُ صرْخة ٌ دوّت كياناً راضخاً حدّ التّعوُدِ على لعْقِ بقَايا الذّكْرى غصّة...
وقبْل أنْ يسْتكين بدأتِ القِصّة!
في زمنٍ ليْس ككُل الأزْمنة و وقْتٍ كانتْ تتسلّلُ فيه أشْرعةُ النّسْيان منْ مِيناءٍ شَهيقٍ تكْسوهُ عُنْفوانةُ الرُسّو على شَاطِيء الانْكسَار، و تعْلوهُ ترْنيمَة ٌ نِصْفُها الأكْبَرُ مُطِلٌ على نوافِذَ ضبابية دائِمةُ انْعِدامِ الرُؤْيةِ الناتِجةِ عنْ ثُقوبِ سُوءِ ظنّ البشَر فيها، اسْتنجد جانبٌ قاتِمٌ أشِعّة الهَذيانْ فتجِدهُ يقْتاتُ لهُ هلوسةً تترددُ كأنّها تكْسوا جِلْدهُ المُترهِلَ تمُوّجاتً عاتيةٍ، اعْتاد أنْ يسْتميلَ فيها غفْوةً مُستجدِيةِ الهرُوب إلى قبوٍ مُسْتَنْكَر فتأْتيه صَحْوةٌ تنُمُ عنْ حدُوثِ كبْوةٍ لا ينْطفِيءُ توهُجُها إلاّ بعْد تسَاوي الأقْدارِِ بيْنهُما.
ارْتاح غفْوتَهُ حينَ سمِع قرْع أقْدامٍ تبْدو لأوّل وهْلةٍ شبَح المسَاءِ الكئيْب، فترَائى لهُ أنّ تقْديم كلِمة قفَصٍ عنْ شُباكَ البوّابةِ تلْك قدْ يُغيّر مفَاهيمَ شتى، ولا تَبيتُ بتَاتاً على حالةِ ارتياحٍ كما تبْدوا عليْها عنْد تسْبيحاتِ انْعِدَام الاسْتيعابِ والرُؤْية.
أُفقياً، كانتْ وكأنّ زَميرَ لِقائهِما تبْدوا عليْه تسَابيحُ الغُرفِ البارِدةِ الكثيرَة في آخرِ روَاق القبْرِ وقبْل عذابِ المغيبْ، كان يرْبُوا إليْه وقتاً ويفْعل الآخر بالمثل؛ ككَفيفٍ تكيّفَ ذات مساءٍ معَ تموّجات خطوّات الأرقِ وكوابِيسهْ لتشْملهُ مفارقةُ عبُوسٍ بيْن وِجْهتيْن .
جلس العجُوز (كَرَوَانْ) تسْتميلهُ تَقلّبَاتُ ذاك الملاكِ التوْأم وتُحاوِل تقْليصَ فجَواتِ العُبورِ بيْن الوجْهتيْن، و كَكُلِ مرة تتساقَطُ من ذاتِ البوابةِ الوحِيدةِ التي لمْ تتغيّر ولمْ يسْتغْرق سُنونُ إعَادةِ فكّ طلاسِمها المُنْتقَاة إلاّ سبِيكَة تنْويمٍ واحدةٍ في ممرّاتُ النسْيان. أقْسى ما يُمْكن أنْ يواجهَ ويرْبط بيْن فلْذتيْن هو هوسٌ شبقيٌ ساكنٌ يحْدِثُ شقُوقاً مَمْشوقَة الحوافِ والوجْهةِ إلى (مَرْوَانَة) تلْك المدينَةُ الآسُرة بشقوقِ نهْديْها المنْسدِلة و موانئِها السّاحرة تعْبر كلّ حينٍ وحين، تُحاول إقْناع ثورة وجُموحِ ذاكَ النّسْخ الكائِنْ بيْن شُقوقِ الماضي وما يفْصلهُما تواتُراً نحْوها، متسلّلة بيْن رُدهَاتٍ معْتمَةٍ تسْتبّدُ بهما خِلافاً لمٍ يهُم يوماً متى تُضاءُ قوالبُ منْسدلةُ الحوافِز نحْو ذات الهدَف، وهلْ يا تُرى أجدُه و هو منْ يرْمق أطْراف كيانِه الرّاضخ لذاتها.؟
-تحدّث العجُوز إليْه مُتناسياً تعْلوه غمَامةُ الحيرةِ و الترجّي :
أتراهُ استبدّ بنا كلّ ذلك الوقْت؟
أجابه الآخرُ متسائلاً :
أتتدبّر لقاءً خالِص المعاني حين نلْتقي به ذاتَ مرّة ؟ لأنّي أتمَنى تواصُل نقَاط ضعْفي تكاثُراً في سطْوته !
واصل بذات النبْرة : أنا على ذات الاسْتعداد لذاك الرّضوخ لكنّك بجانِبك الواقِعي الّذي يشُقُ له مكانةً بيْن ذاكرتك أحيْانا تسْتطيع تغْيير شرائِط حياتك معه فلماذا تقْتات ما يبثّه لك من فُتاة ؟
استَمَع إليه العجوز بعْد أن خلد علنّا إلى تابُوتِ الظّهيرة وكفكْرة أتتْ دون وعْي منْ ظرْف ممزّق العنْوان اسْتُدْرِجت هلْوساتٌ متَناسِقة الترْتيب حسب درجة التأْثير .
- ألاَ تعْتبر أنّك مُستمالٌ إلى تلك الجِهة حدّ الإذْلال ؟
أجاب بارْتباك جانِبهُ المظلمَ ثانيةً : أنْت على صوَابٍ تخْميناً فكفّ عن الاستماع إليه ليُبْعدك !..
بعد ظُلمةٍ دامتْ قيلولةً ببرْهة أُسدل السّتار الفاقِع إحْمراراً قانياً يعبرُ ككرةِ نارِ منجنيقٍ منْ عهدِ ملوكِ الرومْ ... مستلقياً ذات عتمةٍ تنُّم عن الضّجر من جهة وعنسُخط كُحلة المساءِ خوفاً من جبْهةً أخرى دنا منه مُتثاقلَ الكلمات بلطْمةٍ عابرةٍ كالعادة:
أمازلتَ ترٍنوا تلذُذاّ به على تلك الشّاكلة؟
أجاب يقْتاتُ العَبراتِ عاريةَ المعنى :
أنا هُنا الآن وأنْت هنا وكلّ أقدارنا اجتمعتْ ترتيباً على قائمتِه فأين أسْتكينْ ؟
في مواجهة جانبه السّوي حينها؛ لمْ ينْبُس العجوز إلاّ فَجاجةً تعْتريه:
أتذكّرُها بلَفائِفِ الزّعْتر صباحاً وكوبِ الشاي ذاك !... أتذكّر أفلاذَ أكْباد رمُوا بي جانبَ النّسْيان،ْ رموا بي في زاوية العتْمة...، أتَذمّرُ لحْظة استعادتي لذاكِرتي!! ...هذا فقطْ.
لكنّه لمْ يعُد يشْبه في تصرفاتهِ ما يُوحي أنّه مسْجون الزهايْمر حدّ المرضْ؛ فلماذا لمْ يتذكّرْها ولفائِف الزّفير الممْزوجةِ تخْذير أعْمارٍ فارغةٍ أبداً لنْ تعْتدل ما يَملئُ تقرُحاتِ فراغها بتاتاً؛ كقصبٍ منْخورِ القلبْ، قاسٍ من الخارج هَرٌ من الدّاخل يصْدر صوْت عبورِ الأزْمنةِ فيه صوْت الصرْصرْة!.
- هِرُ المدينةِ لمْ يأتي اللّيلة أيضا، أليْس في الأمر لُبْس ؟
- ربما تكون نفْسها جُرْعة المواءِ الزائدة!
جلَس العجوز يمْسحُ آثار الوِحدةِ على أطْراف ذاك الكائِن الغريب الّذي ظَهر له جوْهرهُ كقطٍ يؤْنس وحدتهُ حيناً ويبعثُ رونقَ التجدّد على شيخوختهِ حيناً آخر؛ اعْترتهُ كَسْوة ٌ اسْتندتْ في تفْصيل مقاساتِها على نمطِ تفْكير المتشرّدين في ذلك المناءْ، يُسافرُ مجرّة بعد أخرى تفكيراً لا ينُم سوى عن كوْنه مُتطفلاً آخر أضيفَ إلى قائمةِ متشرديْ( متشردين ثالثُهما قِطْ) المدينة ( مَرْوانة ).
و في زَفَرَاتِ الارْتِباك المُتلوْلِبِ على حوافِ الأنفَاس كتب أوّل قدرٍ له بعد تلْك الحادثةِ ... واقعة ٌ اعتادتْ أنْ تمرّ طيْفا عفِيفَ الأوْهامِ على مريض ، و تلْك التّوهُجات المعْقوبةُ منْتقاة بعناية و بلفْحة تذمّر حارة اقتَرب منه ثانيةً ليسئلهْ :
أصْبع بعْد الآخر فُقِد من خلالهِما ارْتجافاً لا يدْري بعْدهُ أيْن الملاذْ، فهْل يا تُرى ستلحقُه ؟
توجّس العجوز مدَى حِسِّه رغبةً في الهرُوب من علياءَ سؤال شجرة المَرْمَرْ المنْخرِ جِذْعُه جرعةً زائدةً نحتَتْ تفاصيله عبثاً مُسْتباحً لا رجْعة في قرار اندِماله بعد وخزٍ دامَ طويلاً. فانقَضَى ينامُ توَرّماً إلى تابوتِ ألزهايْمر وفي نُهُودِ لحظات الصّحْوةِ كان يتذكرها هي دون غيْرها.
كان يتذكّر (مروانة)؛ مدينتهُ الغائبةَ عنه منْذ الأزلْ ولا يمْكن أنْ يُعبِيء فراغَ فُقْدانِ عجوزٍ حياتهُ شبَح ألزهايْمر حتى لو كان به دائِم الالتصَاق .
أيكون ممْشوقَ النّظراتِ أيضا ولا جدْوى منْ تذكّرها. ؟
جميع الحقوق محفوطة لدار الجزائر تقرأ للنشر والتوزيع
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire