آخر الأخبار
... جاري التحميل

أقلام/ قراءة في رواية ( النهاية ) للروائية الجزائرية شنوفي حميدة بقلم الكاتب غريبي بوعلام

1


قراءة في رواية ( النهاية ) للروائية الجزائرية شنوفي حميدة.

----------

بداية الرواية كانت من نهايتها، حيث وصفت الروائية عودة بطلة الرواية ( نفيسة ) في تلك الحافلة القديمة من العاصمة إلى قريتها الأصلية التي ترعرعت فيها، و لم تذكر كل النهاية إلا في أخر الرواية، بعد أن دارت كل تلك الدورة الكاملة في السرد القصصي للأحداث الدرامية التي مرت بها البطلة، و في الأخير صدمتنا بتلك النهاية التراجيدية المؤلمة.

و قبل ذلك كتبت مقدمة كتمهيد لدخول أحداث الرواية بكتابة هذا العنوان ( القرية ..أوت..أغسطس صيف 1965 ) و تحته رسالة قصيرة، و عنوان رسالة أخرى قصيرة ( العاصمة أوت أغسطس ..صيف 1965 ) ثم بعد ذلك تقفز قفزة 28 سنة و تبدأ الرواية بعنوان صغير ( أوت ..أغسطس ..صيف 1992 ) و هذا ما يفسر بداية الرواية من أخرها بسرد أحداثها إلى أن تصل إلى تلك النهاية التي انطلقت منها الرواية، و هي تقنية سردية مستعملة كثيرا عند كثير من الروائيين، حيث تدور بالقارئ تلك الدورة السردية الكاملة ليتم غلقها.

هذه الرواية أصلها رواية الروائي الجزائري الراحل عبد الحميد بن هدوقة ( ريح الجنوب ) التي كتبها منذ 50 سنة،و جعل لها نهاية مفتوحة على عدة تأويلات، أو بمعنى أخر تركها بلا نهاية، تعمد ذلك ليترك القارئ يتفاعل مع الرواية، فيتخيل لها نهاية حسب استيعابه لعمق موضوعها، مستعملا في ذلك خياله الخصب، و ذوقه الأدبي، هذا ما جعل الروائية ( حميدة شنوفي ) تتخيل لها نهاية حسب ما رأته مناسبا لها كنهاية صادمة، و اجتهدت في ذلك كثيرا نظرا لعشقها لفن الرواية، و تأثرها الكبير بقلم الراحل بن هدوقة، و قبل شروعها في كتابة تلك النهاية، أعادت صياغة جزء من الرواية الأصلية بقلمها و أسلوبها الخاص، لتربطها في الأخير بتلك النهاية التي أرادتها، و قد استعملت في ذلك ما يسمى بالاقتباس تارة و التناص تارة أخرى من خلال سردها.

أحداث الرواية باختصار شديد كما رواها بن هدوقة تعود إلى سنة 1965، و هي السنة التي وصل فيها الرئيس الرحل هواري بومدين إلى سدة الحكم، و عمله على تطبيق السياسة الاشتراكية التابعة لمعسكر الشرقي انذاك ( الاتحاد السوفياتي ) سابقا، حاول تطبيق تلك السياسة في المجال الزراعي الفلاحي، لتأميم الأراضي الفلاحية تحت شعار ( الأرض لمن يخدمها ) و ذلك بنزع الأراضي الزراعية من أصحابها، و منحها لمن يزرعها و حصد غلتها، تطبيقا لمبادئ السياسة الاشتراكية الشرقية،و في خضم هذه السياسة وقعت في تلك القرية النائية أحداث الرواية، التي تتمثل في والد نفيسة الذي يملك أرض خصبة و شاسعة فأراد شيخ البلدية أن ينزعها من ملكه، تطبيقا لمبدأ السياسة الاشتراكية التي فرضها الرئيس، و لم يجد طريقة لمنعه من هذا السلوك، إلا أن يزوج ابنته نفيسة من شيخ البلدية في المقابل يترك له أرضه في حوزته، و حين سمعت نفيسة بالقصة رفضت رفضا قاطعا، و تحت الضغط الرهيب الذي موُرِس عليها هربت إلى العاصمة،هنا تتوقف رواية بن هدوقة ( هذه أحداثها مختصرة جدا ) بعدها تتدخل الروائية حميدة شنوفي بالنهاية التي أبدعها خيالها.

قبل ذهابها إلى العاصمة اختفت في أحد أكواخ القرية لبضعة أيام، ليكتشف أحد سكان القرية مخبأها، أثناء تحاورهما طلبت منه مساعدتها في الذهاب إلى العاصمة فوافق، و هو الذي كان يعرف كل قصتها، هنا تتدخل الروائية بالنهاية التي برمجتها لبطلة القصة.

بعد وصولها إلى العاصمة و استقرارها هناك، تتدبر أمرها لتواصل دراستها العليا، فتتحصل على شهادة الماجستير ثم واصلت دراستها لتنال درجة الدكتوراه في الأدب العربي، و خلال مشوارها الدراسي تزوجت بزميل لها في الدراسة، و أنجبت ثلاثة من الذرية، و بمرور السنين فكرت في العودة إلى قريتها التي غادرتها من سنين طوال، و كان ذلك في سنة 1992 سنة بداية الذبح و المجازر البشرية من طرف الجماعات الاسلامية المتطرفة، عادت و في نيتها أن تكرّس بقية حياتها في تعليم أبناء قريتها و دفع ظلام الجهل عنهم، و هي في حافلة العودة و عند قروبها من القرية، يتم توقيفها من طرف جماعة إسلامية إرهابية، بعد انزالهم منها، يُذبح كل ركابها بما فيهم نفيسة و تحرق الحافلة، و الأعجب في كل هذا أن الذي ذبح نفيسة هو أخاها الأصغر منها الذي تركته صغيرا في بيت والدها عندما غادرت القرية، و كانت قد سمّت أحد أولادها باسم أخاها الذي ذبحها ( عبد القادر ) هذه هي النهاية التي تخيلتها الروائية لرواية بن هدوقة ( ريح الجنوب ).

الرواية تعالج قضية المرأة و الأرض، و كيف يتم استغلال المرأة في القرى البعيدة، كيف يُمارس عليها ذلك الضغط الرهيب، من تجهيل و قمع و ضرب و زواج في سن مبكرة خوفا من ضياع شرف العائلة، حاول والد نفيسة مقايضة ابنته بالأرض كي لا تضيع منه بتزويجها من رئيس البلدية، نرى كيف قاومت البطلة كل ذلك الارهاب النفسي، و تمكنها من الفرار و تكوين نفسها، و عند عودتها إلى قريتها يقابلها  إرهاب دموي أكثر شراسة من الذي هربت منه، حاولت معالجة ذلك الجهل المطبق في قريتها لكنها وجدته مزخرفا بحلة التديّن المغشوش و التطرف و التكفير الذي أغرقها في دمها.

الصياغة الأدبية موفقة إلى أبعد حدودها من حيث جودتها، البناء السردي متماسكا، لا توجد فيه ثغرات، الحبكة كانت بأسلوب سهل و متين في نفس الوقت، أولت الروائية لغتها حقها في البناء و الإنشاء بكثير من العناية، ذلك بحسن اختيارها للكلمات و نصاعة الصور البيانية الراقية، و تركيبها المتلاحم ليكوّن لنا ذلك الجمال اللغوي الملفت للنظر، الذي يهز العاطفة، الذي يميل إلى بعض الرومانسية خاصة عندما تصف لنا تلك المناظر الطبيعية الجميلة عند بداية كل فصل جديد من الرواية، و عندما تتوقف قليلا عن السرد القصصي، لتعود إلى ذلك الوصف الرقيق، فتضفي على الرواية مسحة من جمال خلاّب و كأنها لوحة فنية معلقة في الخيال، و كأن الكاتبة تحاول خلق ذلك التوازن في عاطفة القارئ كي لا يتسرب إليه الملل و السلبية، و هذا رغم ما تحمله الرواية من مأساة مؤلمة تحز في الأعماق، كما أحسنت تحليل و وصف ما يدور في أعماق أبطالها من عواطف شرسة و أفكار هائجة كالموج وصراعات تدمي القلب، و هي تحرك شخوص الرواية من خلال سرد تلك الأحداث المؤلمة.

في الرواية رسالة للمرأة لنهوض من جديد، و تنفض عنها غبار الجهل العالق بها أو الذي علّقوه لها مع مرور الزمن، بسم الحفاظ الشرف، و تمزيق الأكفان التي تلفها و قلبها ينبض، فيها دعوة لتفجر المرأة الطاقات العملاقة المدفونة في جوفها بسبب أفكار بالية تجاوزها الزمن.

من خلال تلك النهاية المتخيلة، الروائية تبحث عن جذور الإرهاب الذي اجتاح الجزائر، التي تعود إلى سياسة ما بعد الاستقلال المتسمة بالقمع و الظلم و الدكتاتورية الخفية، التي كانت نتيجتها ذلك الانفجار الاجرامي و الشلال الدموية الذي جرف أرواحا بريئة، و من جانب أخر تلك السياسة الاشتراكية معروفة  بتطرفها و بُعدِها عن الدين إلى درجة الإلحاد، فكان رد فعلها ذلك التطرف الديني الذي وصل إلى قتل و ذبح كل من يتبع تلك السياسة المفروضة على الشعب من سنوات طوال، تلك النهاية تحمل في طياتها ذلك الصراع العميق الخفي بين تطرف الإلحاد و تطرف الإيمان.

و الروائي الجزائري عبد الحميد بن هدوقة معرف بمعارضته لتلك السياسة المُطبقة بعد الاستقلال، عبّر عنها من خلال روايته بنقده القوي المبثوث في طياتها، و لم يساير قلمه تلك السياسة التي أرادت أن تكسبه لصالحها، لكنها لم تتمكن بل عارضها و نقدها، و لم يجعل لروايته نهاية واضحة لأن مستقبل البلاد حينها كان مبهم و عليه أكثر من علامة استفهام، فترك الجواب للمستقبل، كما يمكن فهم أنه كان يدرك ما سيحدث للجزائر و لم يفصح عنه،رغم وجود تلميحات عميقة في عمله الأدبي لذلك.

----------

بقلم الكاتب: غريبي بوعلام / الجزائر.

التعليقات

جميع الحقوق محفوظه © أقلام

تصميم Noro Soldat