قراءة في رواية ( تشرفت برحيلك ) للروائية الجزائرية رشام فيروز.
----------
الرواية تبدأ بقصة حب بين اثنين من طلاب الثانوية، بين ( فاطمة الزهراء و طارق )وقعت أحداثها في مرحلة العشرية السوداء المعروفة بالدماء و الذبح و ضرب الأعناق، حيث تعرضت فاطمة الزهراء خلالها لأبشع تنكيل، و أقبح تعذيب من طرف أخويها المتطرفين، بعد أن عرفا بقصة حبها لطارق، ذلك الحب العفوي، الغض الطري الذي ينعش الروح، فأرادا منعها من الخروج، و توقيفها عن الدراسة و تحجيبها بالقوة و الضرب و التعنيف إلى أن جرحها أحدهما جراء ضربها بعنف، فقررت الأسرة تزويجها دون مشاورتها، عندها أحضر لها أخاها أحد أصحابه المنتمين لجماعة سلفية معقدة و متطرفة إلى أبعد حدود التطرف، و تم تزويجها بسرعة دون رضاها و غصبا عنها، زُفت إلى زوجها المتطرف بجلباب أسود في جو يشبه مأتم الجنازة ، و قد كانت لها فرصة الهروب مع حبيبها طارق، لكنها لم تفعل بسبب خوفها الشديد من المجهول، و بسبب شفقتها على والدها خاصة، الذي كان يحميها من اخويها الإرهابيين،هكذا خرجت من سجن أخويها الإرهابيين، لتدخل بيت زوجها الإرهابي، مع عائلته المتدينة ذلك التديّن المغشوش، خرجت من سجن إلى سجن أخر أشد و أظلم من الذي كانت فيه، من أيامها الأولى، كانت كأنها في ثكنة عسكرية، لم تعرف إلا الضرب العنيف إلى أن سال دمها و كسر أنفها و سحبها من شَعرها، و ركلها في بطنها إلى أن أجهضت، و منعها من العمل( كانت معلمة في الابتدائي) و قد اشترطت عندما خطبها أن تعمل، قَبِل بالشرط، لكن بعد الزواج منعها من العمل، و بعد اصرارها على العمل، قَبِلَ على شرط أن يؤول راتبها إلى جيبه، و هو من سيصرف عليها و لا دخل لها في راتبها، و قد أرغمها على امضاء له تصريح ليستخرج مالها من البريد، لقد عاشت الجحيم الأكبر مع زوجها و عائلته، أنجبت أربعة أطفال في ظرف خمس سنوات، الرجل كان همه الوحيد اشباع رغباته الجنسية التي لا تريد أن تشبع، لا يعرف من العلاقة الجنسية إلا الاغتصاب في كل لقاء، في الأخير تدرك أنه كان يجمع مالها و يحرمها من مصروفها الشخصي، جعلها فقيرة تفتقد أبسط ضروريات الحياة، و اذا صرف عليها يصرف بتقتير ولا يجلب لها إلا ابخس السلع واردؤها، و مع مرور الزمن اشترى من مالها سيارة، و من شدة معاناتها أصيبت بالشلل ثم بسرطان الثدي، مع ذلك واصل تقتيره عليها، و من شدة بغضه لها كان ينتظرها أن تموت، لكنها لم تمت، و أثناء كل ذلك تمكن بماله و مالها من شراء بيت آخر، و فكر في الزواج من أخرى التي كانت تطمع في ماله الوفير ،لهذا أرغمها على توقيع منها ليتمكن من الزواج بأخرى، و عندما رفضت طلقها، و لم تتمكن من العودة إلى بيت والدها الذي كان قد مات و كذلك والدتها، و كيف تعود إلى بيت أهلها و أخاها الإرهابي يقيم هناك رفقة زوجته و أولاده، فتمكنت من العودة الى العاصمة و ليس إلى بومرداس أين يوجد بيت والدها، و هي كانت متزوجة في ولاية البليدة، في العاصمة تمكنت من تدبر شؤونها بمساعدة الخيرين و تواصلها مع جمعية خيرية، تمكنت من العودة إلى عملها و اعالت نفسها و أولادها، تحسنت ظروفها رويدا رويدا، و في الأخير تمكنت من لقاء حبيبها ( طارق ) بعد مدة فراق دامت أكثر من عشرين سنة، و قد دارت كل أحداث هذه الرواية في فترة الحرب الأهلية الجزائرية بين السلطة و الإسلاميين، في الرواية اشارات كثيرة لحوادث مؤلمة جدا من تفجير و تقتيل و ذبح، كما في الرواية حوادث جانبية لها علاقة مع قصة فاطمة الزهراء يستحيل ذكرها كلها في هذه القراءة.
الرواية من أولها إلى أخرها رواية تراجيدية إلى أقصى حدود التراجيدية، مأساة من البداية إلى النهاية، نرى ذلك من حوادثها المؤلمة مع بطلتها و ما حدث حولها، تمكنت الروائية من رسمها بأسلوبها القصصي الخفيف و المؤثر في وجدان القارئ إلى درجة التأثير الشديد و الشفقة على بطلة الرواية و التعاطف معها، تمكنت الروائية من الوصف الدقيق لشخصية هؤلاء المتطرفين الذين يدّعون اقامة الشّرع الإسلامي و هم من أشد الناس المخالفين له، و ذلك باستعمالهم العنف في كل شيء و في كل أمور الحياة، و حصروه فقط في شؤون المرأة، قمعها بشدة بشتى الطرق و كل الوسائل، المهم عندهم الأنثى لا تتنفس هواء الحرية، لأن هذا سيلوثها في نظرهم، كل شيء حلال عليهم حرام عليها، مباح لهم و ممنوع عليها، نرى ذلك من نظرتهم للحب الطاهر العفيف، من فرضهم ذلك الزوج على بطلة الرواية دون مشاورتها، زوجوها برجل متطرف و هي كارهة له، همهم الوحيد هو سترها و صيانة شرفها بعقد شرعي دون قبولها و رضاها، مع أن الشرع الإسلامي جعل من شروط صحة عقد الزواج مشاورة الفتاة قبل تزويجها و رضاها و قبولها، و من حقها أن ترفض من يتقدم لها، و ليس من حق أهلها اكراهها على من لا تحب و لا ترغب فيه، تمكنت الراوية من كشف نوايا هؤلاء الذين يدّعون التديّن، و فضح ما في أعماقهم من سيطرة و نفوذ مطلق على الأنثى، بالتستر بلباس الدين الذي يخالفونه من أساسه، يفرضون على بناتهم و أخواتهم سيطرتهم المطلقة، و يفعلون ما يشاؤون في الشارع ببنات الناس،و بسبب هذه النظرة و هذه السلوكات العنيفة المتطرفة و غيرها من الأسباب، انتشرت موجة الخروج عن هذا الدين، و تفشي ظاهرة الرِدة في العالم العربي الإسلامي، لهذا وَجب اعادة النظر في الخطاب الديني المتطرف، و ارجاعه إلى وسطيته المعتدلة كعلاج لتلك الظاهرة.
من خلال الرواية، نلمس و نرى تلك المكانة المهينة التي وصلتها الأنثى، بسبب تلك العِصابات العمياء الفكر، الفاقدة لكل منطق و انسانية، أوصلوا المرأة إلى مكانة أسفل من الحضيض، مكانة يعافها حتى الحيوان، إنه الجهل، الجهل المطبق المغلف بقشور الدين، المزخرف بالقداسة، فكل تصرف من تصرفاتهم الطائشة نحو المرأة، يستدلون بآية من الوحي أو حديث، لتبرير تصرفاتهم العنيفة المنافية للإنسانية و جوهر الدين، المرأة في نظرهم لا شيء، هي ناقصة من كل النواحي، لا يصلح منها، إلا جسدها الشهي، و عندما يملونه، يستبدلونه بجسد أخر، و هكذا، مع أن الشرع لم يوجب التعدّد، حيث شرّعه لحالات معينة،و قال إن خفتم ألا تعدلوا فواحدة، لكنهم يأخذون جزء من الآية و يتركون الأصل، و هو الاكتفاء بزوجة واحدة، و من جهة أخرى المتزوجة لا تحب من ينافسها في زوجها من النساء، هذا طبعها و هي حرة فيه، هكذا جعلوا التعدّد وسيلة لكسر و ضرب المرأة في العمق، بدل التخفيف من مشكل العنوسة إذا تفاقم.
عندما قَبِل زوج بطلة الرواية أن تعمل، اشترط عليها أن يأخذ مرتبها الشهري كله، بحجة أنها تأكل و تشر ب و تسكن في بيته، هكذا صارت الزوجة في نظرهم كأنها في مطعم و فندق، عليها دفع ثمن الطعام و الايجار عند نهاية كل شهر، و لا تصلح إلا للفراش و المعاشرة العنيفة كالبهيمة و التفريخ لتخليد لقب الزوج، كل هذا و هُم على علم بأن الشرع الإسلامي، أوجب على الزوج النفقة حتى و إن كانت الزوجة غنية، بل و لا يحق للرجل التدخل في مال الزوجة، لها حرية التصرف في مالها، و من حقها أن تمنع زوجها منه، بل و أكثر من ذلك، تأخذ منه النفقة اذا شح عليها كثيرا أو منعها منها، فأين وضع هؤلاء الطواغيت الآيات و الأحاديث التي تبين ما أشرت إليه الان؟ من هنا نستنتج كيف يلعبون بالدين و أحكامه الواضحة كوضوح الشمس، و يفتون على حسب الأهواء التي تسيطر على عقولهم المتحجرة و شهواتهم الطائشة.
أغفلوا كل الآيات التي تشير إلى حق المرأة و النساء، كالآية التي تشير إلى المودة و الرحمة التي يجب أن تكون بين الرجل و المرأة، بين الزوج و الزوجة، و يصرون على آية الضرب المذكورة في القرآن لظرف و وقت معين و ليس على سبيل الوجوب، فنراهم يقدسون كثيرا هذه الآية أو هذه الكلمة، و يلحون عليها و كأنها أعظم آية نزلت في القرآن الكريم، فتراهم يقولون بوجوب ضرب المرأة، لأن فيه طاعة لله و تزيدهم قُربا منه، بل هي عبادة كالصلاة و الصوم و غيرها، و قد أشارت الروائية إلى بعض الآيات و وصفت كيف يلوون عنق الآيات، فينتحر المعنى الصحيح العميق فيها، و لا يفسرونها إلا على تطرفهم المتطرف، و تتساءل الكاتبة عن مصير حور العين من هؤلاء الوحوش الضارية المسكونة بالهوس الجنسي إلى النخاع.
كما أشارت الروائية إلى صديقة بطلة القصة( سعاد ) التي تم اغتيال خطيبها الشرطي من طرف أحد الارهابيين، فقررت الانتقام له بأن، غادرت مقاعد دراسة الطب لتلتحق بأعوان الشرطة، و بعد تخرجها عملت على مكافحة الارهاب، و قد تمكنت من القضاء على الكثير من هؤلاء المجرمين، رغم ما أصابها من جروح، و من خلال قصة سُعاد أرادت الروائية إظهار أن في المرأة الكثير من القوة الكامنة، لكنها مكبلة ومخدّرة بالمقارنة مع فاطمة الزهراء المتميزة بالضعف و الانكسارات المتتالية بسبب ظروفها القاسية، أما سعاد فظروفها أحسن، كانت هناك عوامل و فُرص جعلتها تفجر ما في جوفها من طاقات عملاقة خاصة أنها رفضت الواقع الذي تم حصارها فيه فثارت عليه، و فرضت وجودها و تمكنت من الانتصار و تحقيق الهدف، نرى كيف تدعو الروائية القارئ بأسلوبها إلى المقارنة بين هذين النوعين من النساء، المرأة و الرجل من الناحية القوة الفكرية و النفسية متساويان، لكن ما حدث، أن التسلّط الذكوري، هو من كسر المرأة من الداخل و بتر جناحيها كي لا تحلق، و هذا طبعا أسبابه ممتدة عبر الزمن الماضي السحيق في أُمة أهل الإسلام و الأمم الأخرى.
كما عرّجت الروائية على قانون الأسرة الجزائري الذي يجب إعادة النظر فيه، لأنه امتص كثير من حقوق المرأة المتزوجة، وحاصرها في زاوية معينة، وأهداها حقوق ظاهرها الحرية وباطنها القيد المزخرف، و لم تغفل الكاتبة أن تشير إلى قانون الوئام المدني أو المصالحة الوطنية، الذي منح الإرهابيين حقوق و أموال كثيرة، و بعضهم كوّن ثروة رغم كل الجرائم التي اقترفوها ضد الإنسانية باسم الدين.
الرواية كأنها دراسة نفسية واجتماعية عن أوضاع المرأة في الجزائر و العالم العربي الإسلامي بصفة عامة، في قالب قصصي روائي أدبي ممتع و جذاب و مؤلم في نفس الوقت، حاولت الروائية التلميح و الاشارة من خلال سردها إلى كل الوخز النفسي العميق الذي قهر أعماق المرأة، و كيف يعود كل ذلك بالسلب على العائلة و المجتمع، و تمكنت من الربط بين النفسي و الاجتماعي بطريقتها الجميلة و أسلوبها السردي المميز بكثير من الإبداع والتشويق.
الرواية في مجملها موفقة جدا، من ناحية المعنى و المبنى، أسلوبها ليس صعبا، فيه تشويق لمعرفة الأحداث التالية و ما سيحدث لبطلة القصة المجروحة في الظاهر و الباطن، تمكنت صاحبة الرواية من جذب القارئ و شغل فكره و إلهاب احساسه و الزج به في عمق أحداث الرواية، و لا نجد في سردها المتسلسل فراغات أو ثغرات سردية، الأحداث كلها متتالية و معقولة جدا و متماسكة لا يوجد فيها اقحام لحدث أو شخصية ما دون التمهيد لها، و هذا دليل تمكن الروائية من أدواتها السردية القصصية و حسن استعمالها لتخرج لنا هذه التحفة الأدبية الراقية التي نتمنى كثيرا لو يتم تتويجها بجائزة معتبرة.
بقلم: غريبي بوعلام / الجزائر.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire