" رصاصة ليحيا الوطن "
كان الجو باردا، في إحدى ليالي مارس الربيعية، في جنح الظلام يمشي بخطى شبه مسرعة وخائفة، تارة يتفقد المسدس في جيب معطفه الأسود الصوفي، وتارة يحرك قبعته فوق رأسه يمينا وشمالا.
سرت في جسده ارتعاشة اهتز لها كيانه وازداد بعدها ارتباكه لما هو مقبل عليه، ثم ازدادت سرعت خطواته بعد أن ألقى نظرة سريعة على ساعته اليدوية الصغيرة، وصل لمنعطف ضيق كان طريقا تدب فيه الحمير والبغال بين أشجار الغابة المتشابكة. وقف للحظة إلتفت فيها لليمين والشمال ثم من خلفه وسلك بعدها الطريق بهدوء وروية، مرت عشر دقائق وهو يمشي فيها إلى أن توقف فجأة، كان قد وصل لطريق معبدة للعربات، اختبأ تحت شجرة عرعار ضخمة وأخرج مسدسه بهدوء وقام بتجهيزه وكأنه ينتظر هدفا ليصوب الرصاصة فيه!
أغمض عينيه وأسند رأسه بجذع الشجرة وهو يرسم على ثغره ابتسامة تذكر معها بعض الذكريات الجميلة، كالحفلة التي أقامه والده بمناسبة حفظه للقرآن الكريم كاملا، و أول لقاء غرامي عند الساقية مع حبيبته، لكنه لم يلبث أن اغتصب تلك الإبتسامة وقمعها بدمعة ذرفتها مقلتاه لما عاشه من أحزان وآلام، كإغتيال والده المقاوم على يد السلطات الإستعمارية المتوحشة و موت والدته بعد ذلك بثلات أشهر، وكذلك اختفاء حبيبته الغامض!
إزداد خوفه وهو يتذكر كل هذه الأحداث التي كان السبب ورائها هو العدو الفرنسي المستعمر، تذكر اليوم الذي انضم لجماعة الفدائيين في الجبل، تذكر عندما أقسم ويده على كتاب الله أن ينتقم لأمه وأبيه وحبيبته، أقسم على أن يموت شهيدا من أجل أن يحيا الوطن!
فتح عينيه ونظر للسماء ليبصر من بين النجوم واحدا يأفل، أطال فيه النظر وكأنما يودعه وهو يقول: " وداعا يا نجمي، لقد وصلت النهاية وأشرفت! "، وما هي إلا ثواني حتى سمع صوت ضجيج قادم، كان يعرف أنه ضجيج سيارة، تلك السيارة التي كان ينتظرها منذ زمن، أخرج رأسه من مخبأه وأطل ليرى موكبا من سيارتين للسلطات الفرنسية، كان فيهم جنرالا من أشهر جنرالات فرنسا. كان يراقب الموكب وقد استعد جيدا للإنتقام، لم يعد يشعر بالخوف أو الإرتباك، لم يعد يحس بشيء!
اقتربت السيارتين من موقعه فلم يفصلهم سوى أمتار معدودة، فجأة، قفز من مكانه مسرعا إلى وسط الطريق وهو يوجه مسدسه لواجهة السيارتين، ارتبك الجنرال وحرسه! فما إن أعدوا أسلحتهم أيضا حتى انهالت عليهم رصاصات مسدسه الصغير وهو يصيح بأعلى صوته بكلمات كانت محفورة في قلبه : " الله أكبر، يحيا الوطن، تسقط فرنسا، يسقط الخونة... "، بضع رصاصات وجدت احداهن مسلكها لصدر الجنرال، وأخريات أسقطت بعض الحرس وأردتهم جثثا!
فجأة، توقف الرصاص، انتهت الذخيرة، لم يتحرك من مكانه، ظل واقفا جامدا، كأنه ينتظر أجله الذي كان ينتظره منذ زمن!
فما هي إلا هنيهة حتى اخترقت جسده رصاصة سكنت صدره، أحس بها دافئة مخلصة، جعلته يسقط على ركبتيه للحظة استعرض فيها شريط حياته بلحظاتها السعيدة والمؤلمة قبل أن تفيض روحه ووجهه يقبل ثراب الوطن..!
بقلم :
رشيد سبابو
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire