قراءة في رواية ( فيلا الفصول الأربعة ) للروائي الجزائري ابراهيم سعدي.
----------
بداية الرواية كانت بزيارة ( الهادي ) لأحمد ياطو، التي أرادها أن تكون الأخيرة، لكن بمجرد أن دخل فيلته وجده ميتا. وكان أحمد ياطو وزيرا سابقا، لكن حُذف اسمه في الحكومة الجديدة لصاحب القصر. وقد أحضر الهادي طبيبا عاين الميت، أعني أحمد ياطو الذي كان يعيش لوحده في تلك الفيلا الفخمة، بعد أن تركته زوجته و أولاده. وقد كلّم الهادي أهل الميت و أقاربه و معارفه لحضور الجنازة، لكن لم يحضر أحد في تلك الليلة، حيث قضاها رفقة الجثة إلى الصباح. و خلال تلك الليلة الطويلة جدا في نظره، استرجع معظم الذكريات، و جلّ ما حدث لذلك الوزير السابق، فقصّ لنا بعض أحداث حياته معه. و قبل ذلك استطرد الكاتب ليظهر لنا نظرة الهادي للحياة و للوجود، فصوّر لنا نظرته الفلسفية العميقة التي تتمثل في عبثية هذا الوجود في نظره. وطرح أسئلة تبدو أنها حيّرته، و صارت هواجس تنهشه أنيابها من الداخل إلى أن أوصلته إلى التشاؤم من هذه الحياة، فما الجدوى من هذه الحياة اذا كانت نهايتها الموت المحتم الذي لا يمكن للإنسان الفرار منه؟ وما الفائدة من الزواج لإنجاب أطفال مصيرهم الكفن؟ مصيرهم مبرمج في حفرة في الثرى؟ وقد وصل به الأمر إلى وصف العلاقة الجنسية بين الزوجين بجريمة الإنجاب، و وصمها بالشنعاء، فكان موقفه من المرأة النفور والابتعاد عن الحب بكل أشكاله، رغم ما يجده في أعماقه من نزوع جارف إليه. وقد كانت له مناسبة للزواج من فتاة جميلة و رقيقة، لكنها رفضته بمجرد أن اشترط عليها عدم الإنجاب، أي ارتكاب تلك الجريمة، كما يعتبرها. كما عرضت عليه امرأة أخرى الزوج، لكنها أعرضت عنه بمجرد أن تلفّظ بذلك الشرط، أي عدم الانجاب، متهمة إياه بأنه لا يرغب في الزواج إلا من أجل التمتع بجسد المرأة الطري. وقد تمكن الكاتب من وصف ذلك الصراع الرهيب المحتدم في حلبة شعور ( الهادي ) بأسلوب رائع و جذاب بحيث ألهب شعور القارئ و أشعل فكره. واسترسل في تلك النظرة إلى أن طرح تلك الأسئلة الفلسفية الوجودية دون الخروج عن الأسلوب الأدبي و الوقوع في الطرح الفلسفي العقلي الصارم، فتساءل: من أين جاء الإنسان؟ وما الهدف من وجوده في هذا الوجود الفسيح؟ و لم يكترث كثيرا بمسألة النهايات، كما يسميها، وعاد إلى مسألة الانفجار العظيم، و ماذا كان قبله، و لماذا كان هناك ذلك الانفجار العملاق. و من خلال السياق السردي نرى الكاتب يلمّح بما يسمى وحدة الوجود، بمعنى أن الذي أوجد الوجود و الوجود سواء، و هما أزليان و أبديان، و لم يذكر الكاتب اسم الله و لا كلمة خالق أو واجد الوجود، أو واجب الوجود، بل أخد يطرح السؤال تلو السؤال على لسان بطل الرواية.
كما هو ظاهر الروائي يطرح موضوع الوجود في روايته بطريقة أدبية، هذا الموضوع الذي شغل بال الفلاسفة و المفكرين منذ فجر التاريخ، و إلى يومنا هذا، مازال هذا الموضوع، حي ينبض في الفكر الإنساني و الفلسفة البشرية، التي لم تجد لها الجواب الكافي الشافي، لهذا في رأي الكاتب لن تكون هناك اجابات حاسمة لتلك الأسئلة،لأن لو وُجدت اجابات مقنعة سيتوقف الفكر البشري عن التفكير العميق، و لن تكون هناك فلسفة حية، لهذا الفكر و الفلسفة متواصلان في البحث المضني، و الفكر الراقي من جيل إلى جيل بغض النظر عن ديانة أفراد البشرية، إلى نهاية الحياة فوق كوكب الأرض،و نلمس هنا جانب من شخصية الروائي و ميله للفلسفة الوجودية، التي وجدت صداها في أعماقه، و شغفه بالقلق الوجودي المعروف عند فلسفة( سارتر ) مع العلم بأنه أستاذ مادة الفلسفة في الجامعة، هذه المادة المتميزة جدا بالجانب العقلي المحض، لم تقتل في جوفه موهبته الأدبية في أدب القصة و الرواية، و قد تمكن من مزج بين الفلسفة و الأدب بطريقته الخاصة و أسلوبه المميز في هذه الرواية و بعض أعماله الروائية السابقة، التي تميزت بنوع من الغرائبية، و البحث عن ذلك الحقيقي المجهول الذي ربما لن يصله ذلك الإنسان المتعطش للمعرفة و الحقيقة، و هذا في نظري من بين الأسباب التي جعلت رواياته تتسم بتلك الجاذية والدهشة و التشويق الذي يربط وجدان القارئ بموضوع الرواية،و التفاعل معها من الأعماق، زيادة إلى أسلوبه العذب الخالي من التعقيد اللفظي و السرد المُمِل.
أثناء تلك الليلة وجد الهادي نفسه وحيدا في تلك الفيلا الكبيرة قرب جثة صديقه الحميم، فكر في الأمر، سيطرت عليه مخاوف كثير وسط ذلك الصمت الجنائزي و الليل المدلهم بظلمته و مخالبه الحادة، أخد يقص، و يسرد بعض مواقف كانت له مع ذلك الوزير و ما يخص عائلته، ذكر لقطات من مشواره الوزاري، فكر و قال ربما ذلك الميت يكون قد ترك له وصية سرية، فأخذ يقلب و يفتش عليها، لكنه تذكر أن الوزير كان يمنع أفراد عائلته من الدخول إلى مكتبه الخاص، فتردد في الدخول، ثم دخل و فتش مكتبه الخاص و لم يجد شيء يشير له، و لا وصية تخصه، إلى هنا السرد الروائي لم يكن قويا بحيث يلفت و يجذب انتباه القارئ، في رأيي الروائي تعمد ذلك ليحضّر القارئ لقفزة سردية نوعية، تنقله إلى مستوى أعلى من الاثارة الفكرية والعاطفية، كالتي كانت عندما طرح على لسان بطل الرواية أسئلة الوجود الإنساني في هذه الحياة و ذلك في الفصل رقم 3 من الرواية، هذه القفزة كان قد برمجها و مهّد لها و هي تدخل في البناء السردي للرواية.
في الصباح حضر أخ الوزير و أولاده الذين هاجروه و لم تحضر زوجته، كما حضر بعض العناصر القريبة له و تمت مراسيم الجنازة، و كان من المفروض أن تحضر شخصيات عالية المقام من الدولة، لكن لم يحضر أحد، و السؤال يبقى مطروحا.
و تتمثل تلك القفزة السردية، بأن قام ( الهادي ) بكسر درج مكتب الوزير، و كان قبل ذلك قد بحث عن مفتاح درج المكتب لكن لم يجده حتى في جيب الجثة، فوجد نفسه مضطرا لكسر الدرج، بعد كسره وجد صندوق صغير مغلق، حمله و حركه ليتكهن بما في جوفه، لكن كان مضطر لكسر القفل ليرى ما بداخله، فوجد مذكرات الوزير السرية التي كان يكتبها دون أن يعلم أحد بها، كتبها بتلميحات فقط مستعملا اشارات لبعض الأسماء و الأماكن، كأن يذكر الحرف الأول من اسم الشخص الذي يكتب عنه، و أشار إلى صديقه الهادي بحرف ( ر) و فعل نفس الشيء عند ذكر بعض الأمور، وعند ذكر أسماء مناطق معينة، كما استعمل فيها كلمات حمّالة أوجه كقوله: (عام الفيل ) ( عام السؤدد ) ....كما وجد في الدرج الغلاف او القماش الأسود الذي جعله تحت سترته، في الأخير حمل ذلك الصندوق الصغير و حفر له حفرة في تراب فيلة الوزير، و دفنه فيها كي لا يترك أي أثر له.
و أثناء قيام الهادي بعملية الكسر، و العثور على تلك المذكرات السرية للوزير، تذكر حالته النفسية المسيطرة علية من فلسفته التي يحي بها، فقد تشابهت عملية كسر درج المكتب و قفل ذلك الصندوق بعمليه بحثه الدؤوبة، لفك بعض أسرار الحياة، و البحث عن اجابات لأسئلته الوجودية التي حيّرت فكره المتعطش للحقيقة، نرى هنا ذلك التشبيه الرمزي الذي استعمله الروائي لمزيد من التوضيح للفكرة التي أراد أن يوصلها للقارئ بأسلوبه البليغ و سرده البديع الممتع، كأن هذا الوجود مملوء بأسرار مخزنة في أعماقه، و البحث عنها كمن يكسّر أقفال تلك المخازن، و هنا اشارة قيمة لوجوب استعمال العقل و الفكر لفك أسرار هذا الوجود، الذي أدهش و حيّر العقول الجبارة و عمالقة الفكر، أم تلك المذكرات فيها اشارة إلى بعض الحقائق التي وجدها العقل البشري عبر الزمن، مع اختلاف العقول في قراءتها و تفاسيرها المختلفة، لهذا وجب تقبّلها رغم اختلاف القراءات و التفسيرات، و هذا ما يوحي بنسبية الحقيقة وأنها غير مطلقة، لأن النسبية تفتح المجال الكبير لمزيد من القراءات و التأويلات للفكر البشري، بينما المطلق أو الحقيقة المطلقة اذا أدركها الإنسان فسوف يتوقف فكره و صير جامدا و سيحارب كل من لم يعتنقها، هذه هي القفزة ( في نظري ) التي أراد الكاتب أن يصدم بها وجدان القارئ بطريقتة الأدبية التي تدور و تحوم حول المعنى دون الذّهاب إليه مباشرة، و هي نفسها الفكرة التي طرحها على لسان بطل الرواية في الفصل رقم 3 من الرواية، و عاد إليها في الفصل رقم 14 ببعض من التفصيل لكن بأسلوب أكثر جاذبية و إثارة لفكر و عاطفة القارئ.
واصل الهادي في قراءة بعض مذكرات الوزير السرية، حيث أخبرنا بأنه كتب رواية و نشرها، ليخبرنا في الأخير أن تلك الرواية كانت من تأليفه هو وليس الوزير، و أكسبته بعض الشهرة في العالم الثقافي ثم أمره أن يكتب رواية ثانية، و ينشرها باسمه، في البداية راوغه و تحاليل عليه و تعذّر بعدم كتابته لرواية أخرى لغياب الإلهام لديه، لكن في الحقيقة كان قد انتهى من كتابة رواية ثانية و لم يخبره، لكن في الأخير نشرها بسم الوزير بعد وفاته، كما أخبره بقتل صاحب القصر الذي لم يعينه مرة أخرى كوزير بالمسدس الذي وجده في درج مكتبه مغلف بالأسود الذي جعله تحت سترته، و لم يذكر الروائي إن نفّذ الهادي الوصية أم لا، ربما فكر أحمد ياطو في الانتقام.
الروائي لم يذكر كل شيء، و كان يمكنه ذلك، لم يفعله ليترك القارئ يفكر معه في أحداث الرواية بمخيلته،على سبيل المثال، لم يذكر سبب موت أحمد ياطو، في نظري لم يغفل عنه، بل تركه للقارئ الفطن، ليشغل فكره به، و من جهة أخرى كان يريد أن يضفي على روايته بعض الغرائبية التي تعوّد عليها في رواياته السابقة، لكن في رأيي لم يلجأ إليها كثيرا في هذه المرة، لأنه أراد التغير في أسلوبه القصصي، بحثا عن التجديد الإبداعي الروائي، و ما الإبداع القصصي إلا ذلك البحث المتواصل عن التجديد في المعنى و المبنى دون كلل أو مَلل، و لم يستعمل كثيرا الحوار في سرده.
اتبع الكاتب الأسلوب الخفيف الممتع من الناحية اللغوية، و لم يستعمل الكلمات الصعبة و التراكيب اللغوية المعقدة، كان يهمه كثيرا التركيز على الفكرة الأساسية التي أراد أن يبلغها للقارئ في قالب قصصي أدبي جذاب و قد أفلح في ذلك، و نجد في سرده تلك القدرة العجيبة على ايصال الفكرة إلى عمق القارئ بسهولة و اقناعه بها بإيحاءات جميلة فتمتزج بعاطفته و فكره بكل بساطة.
كما يمكن اسقاط أحداث الرواية المتخيلة على واقع معين، ربما عاشه و يعيشه الكاتب و المجتمع الذي ينتمي إليه و حاول اعادة صياغته على الورق عن طريق خياله الخصب، و ترك للقارئ فسحة واسعة لمشاركته في إبداعه.
----------
غريبي بوعلام / الجزائر.
----------
بداية الرواية كانت بزيارة ( الهادي ) لأحمد ياطو، التي أرادها أن تكون الأخيرة، لكن بمجرد أن دخل فيلته وجده ميتا. وكان أحمد ياطو وزيرا سابقا، لكن حُذف اسمه في الحكومة الجديدة لصاحب القصر. وقد أحضر الهادي طبيبا عاين الميت، أعني أحمد ياطو الذي كان يعيش لوحده في تلك الفيلا الفخمة، بعد أن تركته زوجته و أولاده. وقد كلّم الهادي أهل الميت و أقاربه و معارفه لحضور الجنازة، لكن لم يحضر أحد في تلك الليلة، حيث قضاها رفقة الجثة إلى الصباح. و خلال تلك الليلة الطويلة جدا في نظره، استرجع معظم الذكريات، و جلّ ما حدث لذلك الوزير السابق، فقصّ لنا بعض أحداث حياته معه. و قبل ذلك استطرد الكاتب ليظهر لنا نظرة الهادي للحياة و للوجود، فصوّر لنا نظرته الفلسفية العميقة التي تتمثل في عبثية هذا الوجود في نظره. وطرح أسئلة تبدو أنها حيّرته، و صارت هواجس تنهشه أنيابها من الداخل إلى أن أوصلته إلى التشاؤم من هذه الحياة، فما الجدوى من هذه الحياة اذا كانت نهايتها الموت المحتم الذي لا يمكن للإنسان الفرار منه؟ وما الفائدة من الزواج لإنجاب أطفال مصيرهم الكفن؟ مصيرهم مبرمج في حفرة في الثرى؟ وقد وصل به الأمر إلى وصف العلاقة الجنسية بين الزوجين بجريمة الإنجاب، و وصمها بالشنعاء، فكان موقفه من المرأة النفور والابتعاد عن الحب بكل أشكاله، رغم ما يجده في أعماقه من نزوع جارف إليه. وقد كانت له مناسبة للزواج من فتاة جميلة و رقيقة، لكنها رفضته بمجرد أن اشترط عليها عدم الإنجاب، أي ارتكاب تلك الجريمة، كما يعتبرها. كما عرضت عليه امرأة أخرى الزوج، لكنها أعرضت عنه بمجرد أن تلفّظ بذلك الشرط، أي عدم الانجاب، متهمة إياه بأنه لا يرغب في الزواج إلا من أجل التمتع بجسد المرأة الطري. وقد تمكن الكاتب من وصف ذلك الصراع الرهيب المحتدم في حلبة شعور ( الهادي ) بأسلوب رائع و جذاب بحيث ألهب شعور القارئ و أشعل فكره. واسترسل في تلك النظرة إلى أن طرح تلك الأسئلة الفلسفية الوجودية دون الخروج عن الأسلوب الأدبي و الوقوع في الطرح الفلسفي العقلي الصارم، فتساءل: من أين جاء الإنسان؟ وما الهدف من وجوده في هذا الوجود الفسيح؟ و لم يكترث كثيرا بمسألة النهايات، كما يسميها، وعاد إلى مسألة الانفجار العظيم، و ماذا كان قبله، و لماذا كان هناك ذلك الانفجار العملاق. و من خلال السياق السردي نرى الكاتب يلمّح بما يسمى وحدة الوجود، بمعنى أن الذي أوجد الوجود و الوجود سواء، و هما أزليان و أبديان، و لم يذكر الكاتب اسم الله و لا كلمة خالق أو واجد الوجود، أو واجب الوجود، بل أخد يطرح السؤال تلو السؤال على لسان بطل الرواية.
كما هو ظاهر الروائي يطرح موضوع الوجود في روايته بطريقة أدبية، هذا الموضوع الذي شغل بال الفلاسفة و المفكرين منذ فجر التاريخ، و إلى يومنا هذا، مازال هذا الموضوع، حي ينبض في الفكر الإنساني و الفلسفة البشرية، التي لم تجد لها الجواب الكافي الشافي، لهذا في رأي الكاتب لن تكون هناك اجابات حاسمة لتلك الأسئلة،لأن لو وُجدت اجابات مقنعة سيتوقف الفكر البشري عن التفكير العميق، و لن تكون هناك فلسفة حية، لهذا الفكر و الفلسفة متواصلان في البحث المضني، و الفكر الراقي من جيل إلى جيل بغض النظر عن ديانة أفراد البشرية، إلى نهاية الحياة فوق كوكب الأرض،و نلمس هنا جانب من شخصية الروائي و ميله للفلسفة الوجودية، التي وجدت صداها في أعماقه، و شغفه بالقلق الوجودي المعروف عند فلسفة( سارتر ) مع العلم بأنه أستاذ مادة الفلسفة في الجامعة، هذه المادة المتميزة جدا بالجانب العقلي المحض، لم تقتل في جوفه موهبته الأدبية في أدب القصة و الرواية، و قد تمكن من مزج بين الفلسفة و الأدب بطريقته الخاصة و أسلوبه المميز في هذه الرواية و بعض أعماله الروائية السابقة، التي تميزت بنوع من الغرائبية، و البحث عن ذلك الحقيقي المجهول الذي ربما لن يصله ذلك الإنسان المتعطش للمعرفة و الحقيقة، و هذا في نظري من بين الأسباب التي جعلت رواياته تتسم بتلك الجاذية والدهشة و التشويق الذي يربط وجدان القارئ بموضوع الرواية،و التفاعل معها من الأعماق، زيادة إلى أسلوبه العذب الخالي من التعقيد اللفظي و السرد المُمِل.
أثناء تلك الليلة وجد الهادي نفسه وحيدا في تلك الفيلا الكبيرة قرب جثة صديقه الحميم، فكر في الأمر، سيطرت عليه مخاوف كثير وسط ذلك الصمت الجنائزي و الليل المدلهم بظلمته و مخالبه الحادة، أخد يقص، و يسرد بعض مواقف كانت له مع ذلك الوزير و ما يخص عائلته، ذكر لقطات من مشواره الوزاري، فكر و قال ربما ذلك الميت يكون قد ترك له وصية سرية، فأخذ يقلب و يفتش عليها، لكنه تذكر أن الوزير كان يمنع أفراد عائلته من الدخول إلى مكتبه الخاص، فتردد في الدخول، ثم دخل و فتش مكتبه الخاص و لم يجد شيء يشير له، و لا وصية تخصه، إلى هنا السرد الروائي لم يكن قويا بحيث يلفت و يجذب انتباه القارئ، في رأيي الروائي تعمد ذلك ليحضّر القارئ لقفزة سردية نوعية، تنقله إلى مستوى أعلى من الاثارة الفكرية والعاطفية، كالتي كانت عندما طرح على لسان بطل الرواية أسئلة الوجود الإنساني في هذه الحياة و ذلك في الفصل رقم 3 من الرواية، هذه القفزة كان قد برمجها و مهّد لها و هي تدخل في البناء السردي للرواية.
في الصباح حضر أخ الوزير و أولاده الذين هاجروه و لم تحضر زوجته، كما حضر بعض العناصر القريبة له و تمت مراسيم الجنازة، و كان من المفروض أن تحضر شخصيات عالية المقام من الدولة، لكن لم يحضر أحد، و السؤال يبقى مطروحا.
و تتمثل تلك القفزة السردية، بأن قام ( الهادي ) بكسر درج مكتب الوزير، و كان قبل ذلك قد بحث عن مفتاح درج المكتب لكن لم يجده حتى في جيب الجثة، فوجد نفسه مضطرا لكسر الدرج، بعد كسره وجد صندوق صغير مغلق، حمله و حركه ليتكهن بما في جوفه، لكن كان مضطر لكسر القفل ليرى ما بداخله، فوجد مذكرات الوزير السرية التي كان يكتبها دون أن يعلم أحد بها، كتبها بتلميحات فقط مستعملا اشارات لبعض الأسماء و الأماكن، كأن يذكر الحرف الأول من اسم الشخص الذي يكتب عنه، و أشار إلى صديقه الهادي بحرف ( ر) و فعل نفس الشيء عند ذكر بعض الأمور، وعند ذكر أسماء مناطق معينة، كما استعمل فيها كلمات حمّالة أوجه كقوله: (عام الفيل ) ( عام السؤدد ) ....كما وجد في الدرج الغلاف او القماش الأسود الذي جعله تحت سترته، في الأخير حمل ذلك الصندوق الصغير و حفر له حفرة في تراب فيلة الوزير، و دفنه فيها كي لا يترك أي أثر له.
و أثناء قيام الهادي بعملية الكسر، و العثور على تلك المذكرات السرية للوزير، تذكر حالته النفسية المسيطرة علية من فلسفته التي يحي بها، فقد تشابهت عملية كسر درج المكتب و قفل ذلك الصندوق بعمليه بحثه الدؤوبة، لفك بعض أسرار الحياة، و البحث عن اجابات لأسئلته الوجودية التي حيّرت فكره المتعطش للحقيقة، نرى هنا ذلك التشبيه الرمزي الذي استعمله الروائي لمزيد من التوضيح للفكرة التي أراد أن يوصلها للقارئ بأسلوبه البليغ و سرده البديع الممتع، كأن هذا الوجود مملوء بأسرار مخزنة في أعماقه، و البحث عنها كمن يكسّر أقفال تلك المخازن، و هنا اشارة قيمة لوجوب استعمال العقل و الفكر لفك أسرار هذا الوجود، الذي أدهش و حيّر العقول الجبارة و عمالقة الفكر، أم تلك المذكرات فيها اشارة إلى بعض الحقائق التي وجدها العقل البشري عبر الزمن، مع اختلاف العقول في قراءتها و تفاسيرها المختلفة، لهذا وجب تقبّلها رغم اختلاف القراءات و التفسيرات، و هذا ما يوحي بنسبية الحقيقة وأنها غير مطلقة، لأن النسبية تفتح المجال الكبير لمزيد من القراءات و التأويلات للفكر البشري، بينما المطلق أو الحقيقة المطلقة اذا أدركها الإنسان فسوف يتوقف فكره و صير جامدا و سيحارب كل من لم يعتنقها، هذه هي القفزة ( في نظري ) التي أراد الكاتب أن يصدم بها وجدان القارئ بطريقتة الأدبية التي تدور و تحوم حول المعنى دون الذّهاب إليه مباشرة، و هي نفسها الفكرة التي طرحها على لسان بطل الرواية في الفصل رقم 3 من الرواية، و عاد إليها في الفصل رقم 14 ببعض من التفصيل لكن بأسلوب أكثر جاذبية و إثارة لفكر و عاطفة القارئ.
واصل الهادي في قراءة بعض مذكرات الوزير السرية، حيث أخبرنا بأنه كتب رواية و نشرها، ليخبرنا في الأخير أن تلك الرواية كانت من تأليفه هو وليس الوزير، و أكسبته بعض الشهرة في العالم الثقافي ثم أمره أن يكتب رواية ثانية، و ينشرها باسمه، في البداية راوغه و تحاليل عليه و تعذّر بعدم كتابته لرواية أخرى لغياب الإلهام لديه، لكن في الحقيقة كان قد انتهى من كتابة رواية ثانية و لم يخبره، لكن في الأخير نشرها بسم الوزير بعد وفاته، كما أخبره بقتل صاحب القصر الذي لم يعينه مرة أخرى كوزير بالمسدس الذي وجده في درج مكتبه مغلف بالأسود الذي جعله تحت سترته، و لم يذكر الروائي إن نفّذ الهادي الوصية أم لا، ربما فكر أحمد ياطو في الانتقام.
الروائي لم يذكر كل شيء، و كان يمكنه ذلك، لم يفعله ليترك القارئ يفكر معه في أحداث الرواية بمخيلته،على سبيل المثال، لم يذكر سبب موت أحمد ياطو، في نظري لم يغفل عنه، بل تركه للقارئ الفطن، ليشغل فكره به، و من جهة أخرى كان يريد أن يضفي على روايته بعض الغرائبية التي تعوّد عليها في رواياته السابقة، لكن في رأيي لم يلجأ إليها كثيرا في هذه المرة، لأنه أراد التغير في أسلوبه القصصي، بحثا عن التجديد الإبداعي الروائي، و ما الإبداع القصصي إلا ذلك البحث المتواصل عن التجديد في المعنى و المبنى دون كلل أو مَلل، و لم يستعمل كثيرا الحوار في سرده.
اتبع الكاتب الأسلوب الخفيف الممتع من الناحية اللغوية، و لم يستعمل الكلمات الصعبة و التراكيب اللغوية المعقدة، كان يهمه كثيرا التركيز على الفكرة الأساسية التي أراد أن يبلغها للقارئ في قالب قصصي أدبي جذاب و قد أفلح في ذلك، و نجد في سرده تلك القدرة العجيبة على ايصال الفكرة إلى عمق القارئ بسهولة و اقناعه بها بإيحاءات جميلة فتمتزج بعاطفته و فكره بكل بساطة.
كما يمكن اسقاط أحداث الرواية المتخيلة على واقع معين، ربما عاشه و يعيشه الكاتب و المجتمع الذي ينتمي إليه و حاول اعادة صياغته على الورق عن طريق خياله الخصب، و ترك للقارئ فسحة واسعة لمشاركته في إبداعه.
----------
غريبي بوعلام / الجزائر.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire