صراخ أم بريئة
أمي متى يعود أبي..؟...اخبريه أن يشتري لي لعبة العيد..أبناء جيراننا فرحون بألعابهم..أريد أن افتخر باللعبة أمامهم..أريد أن افتخر بأبي...قريبا العيد يا أمي...سيأتي أبي...أليس كذلك!؟...
ابتسمت الام في وجهه البريء ابتسامة تُخفي وراءها ألف آهات..
ثم قالت له: سيأتي وسيملأ غرفتك ألعابا..لكن نم الآن يا صغيري فإن الصبح آت..
نام الصغير في حضنها الدافئ وفي عينيها ألف حسرة ودمعة..وعلى وجهها كلّ تجاعيد الحياة القاسية... نام الصغير وهي لم تنم.. بل بقيت مستيقظة باردة..نام الصغير دون أن يفهم معنى الصبح آت..نام على أمل شراء لعبة جميلة يفرح بها في العيد..هكذا هم الصغار، فيهم البراءة.. يسألون كثيرا لكنهم لا يلحّون على الإجابة...
كان الليل يعزف ألحانه الباردة...وكانت الريح ترقص متوهجة مزمهرة....بينما أظلم كل شيء في وجه الأم مريم.
حين أغرق الصغير في نومه...وضعته على السرير الخشبي المهترىء..ثم جلست وحدها، تمسح دمعاتها التي تغازلها في صمت....كيف ستخبره بأن والده لن يعود مجددا...كيف ستخبره أنها وحدها فقط من تقاسمه مرارة وقساوة الحياة...ألف سؤال يعتريها...وهي خائفة على صغيرها...كيف ستقابله أن سألها مرة أخرى حين يطول الغياب...أمي...متى يعود أبي.....أين الهدية....
إن الحياة إذا أرادت أن تظلمك..تكتفي بسرقة الغالين على قلبك...الطيبين...ثم ترميك في براثن الألم....وحين تملّ منك ترفع الستار عن وجهك...لتصطدم بواقع لا يرحم...فمريم لم تتجاوز الثلاثين بعد...ولم تتعود على العيش وحيدة...كانت تقتات من يدي زوجها فقط....هاهو الآن رحل...لا عائلة لها...لا أقارب...الكل كان ضد زواجها برجل مسيحي...رجل تعرفت إليه في المدينة...رجل فقير..لكنه محترم بين الناس...رجل يعمل كحارس في محطة القطار...رحل..دهسه القطار...هكذا قالوا لها....أو قتلوه ...من يدري..المهم وُضِع قطعا مشتتة في قبره المنسي....
ظلت مريم تحاور حزنها والليل يزيد من عمق ألمها وجرحها...انه الضياع كما كانت تقول...ضياع في مجاهيل الحياة...في غياهب السراب...لا أحد يحن عليها سوى ذلك الرجل المسن الذي ضرب الشيب كل جسده وذبل كما يذبل الورد حين يهجره الربيع ...محمد الماكر الذي كان يتصيد الفرصة لإشباع عضوه الجنسي...والاستمتاع بجسدها الفاتن الخلاب....
كان محمد يزورها من فترة إلى أخرى محملا بكل ما تحتاجه مريم من أجل صغيرها....هكذا كان يفعل وفي دواخله ألف مكر وخبث ونفاق...كان كلما رآها يتحسس صلابة عضوه الذكري...ويحس بنشوة الشهوة تعتري كل أعضائه...لكن الفرصة لم تسنح له بعد أو أن مريم كانت تعرف كيف تروض شهوته وتتركه باردا في كل مرة......
ظل الصغير ينام كل ليلة في حضن والدته بكل طمأنينة..فلا وجود لحضن آمن أفضل من حضن الأم.. على أمل أن يستيقظ على لعبة يفتخر بها أمام أقرانه...بينما تبقى مريم مستيقظة لا تنام إلا الساعات المتأخرة من الليل...كانت تخاف دائما من مجهول الصبح الذي ينتظره الصغير...
ترى متى ستشرق شمس الصبح؟
هكذا كانت تقول بعد أن يعييها البكاء وينال منها التعب فتستسلم للنوم لساعة أو ساعتين.....كان كل تفكيرها منصب على مصير صغيرها في ظل مجتمع لا يرحم... مريم الجميلة التي يتمناها ألف رجل أو ألف ذئب ماكر...صدرها الممتلئ..وعينيها البنيتين الكبيرتين..وخصرها الساحر..وشعرها الطويل الحريري....مريم التي تركها زوجها بين مجتمع مسعور...لا يفكر إلا بغرائزه الجنسية....
ظلت مريم على حالها ..وبقي محمد الماكر يترقبها و يترصدها طامعا في النيل منها...مستغلا بذلك ضعفها ومستواها المعيشي المتدني...لكن مريم لم تصل إلى درجة الاستسلام لمثل هؤلاء الوحوش البشرية...بل ظلت متشبثة في صغيرها ...تفكر فيه ليل نهار....
كيف أخبر صغيري بأن الذئب الذي أكل ليلى وجدتها قد أكل أباه.ذلك الذئب الذي تنكر فمزقها أشلاء بأنيابه. ..كيف تخبره بأن الصياد الذي تدخل لحماية ليلى لم يتدخل لحماية أبيه رغم أنه سمع لصرخاته المتتالية.. لأننا بكل بساطة في زمن لا نخاف فيه الله..انعدمت الإنسانية ..زمن النفاق والمنافقين..
كيف سأخبره بأن القصص التي كان يرويها له والده هي مستوحاة من الواقع المؤلم الذي يفتقر لعبق النهايات السعيدة....وأن قصة رحيله هي من إحدى هذه القصص والحكايا المؤلمة..
كيف سأخبر صغيري بأن الكذب أسهل بكثير من صدمه بالواقع اللعين...وماذا لو استيقظ فجأة على دموعي الكثيرات..
هدوء غير مسبوق حل بالمنزل.. حين عادت الأم من تسوقها أو تسولها..لم يسبق لها أن تأخرت بالعودة مثل هذه المرة..كانت تبحث عن لعبة جميلة لتتفاجأ على اختفاء صغيرها...قلّبت كل المنزل ولم تجده...
بدأت أنفاسها تتقطع...أين هو ...صغيري...وهي تصرخ بأسى...والدموع تنهمر شلالا من عينيها..لثاني مرة تبكي بهذه الطريقة، الأولى كانت على فراق زوجها، والآن على اختفاء صغيرها ...وفجأة تسمع صوت ابنها ...
أمي..أنا هنا..أنظري ماذا اشترى لي العم..
أسرعت إليه واحتضنته بعمق إلى صدرها...لم خرجت من المنزل يا صغيري..لم تركت أمك تخاف عليك..؟
أمي العم اشترى لي كل الألعاب التي أريدها...قال لي بأن أبي هو من أرسله إلينا...دعيه ينام معنا الليلة..إنه متعب..
نظرت الأم إلى محمد ورأت فيه ابتسامة مكر، وشعرت بالخوف الشديد..لأول مرة تشعر أمامه بالضعف والاستسلام ..لكنها آثارت الصمت دون أن تنبت ولو ببنت شفة..بينما بقي الصغير يلح عليها..
أمي العم صديقي..قال بأنه سيلعب معي حتى أنام...
لم تستطع مريم رفض طلب صغيرها..لأنها لا تريد أن تراه حزينا..ولا تريد أن تخبره بأن غاية العم جسدها لا أكثر...
بقي محمد الماكر يلعب مع الصغير حتى نام.. فوضعه في ركن من الغرفة..ثم دنا من مريم وكأن النشوة الجنسية أعمت بصره..
اليوم لن تهربي مني..اليوم سأرسم خريطتي على جسدك.. وهو يلهث كذئب مسعور..
لكن مريم كانت تصده عنها بيديها دون أن تصرخ حتى لا يستيقظ صغيرها..بينما ظل محمد يتماهى في نشوته مستسلما لغريزته..فلم يكن من مريم سوى أن تضربه على رأسه بمقص كان بالقرب من سريرها، ليسقط الذئب-محمد- في براثين الدم..
استيقظ الصغير فازعا على اثر ارتطام جسد محمد على الأرض.. امي ماذا فعلت ..انت قتلت العم صديقي
.انت قتلت ابي..
بقي الصغير يصيح باكيا في وجه امه متهما إياها...فلم يكن من الام الا ان تطعن نفسها هي ايضا خوفا من وصمة العار التي ستلحقها في المجتمع..ومن فلذة كبدها الذي بات يراها مجرمة.
بقلم: سركاستي مراد
لم اتوقع النهاية هكذا مأساوية
RépondreSupprimer