آخر الأخبار
... جاري التحميل

أقلام/ قراءة في رواية ( عازب حي المرجان ) للروائية الجزائرية ربيعة جلطي، بقلم غريبي بوعلام

0



قراءة في رواية ( عازب حي المرجان ) للروائية الجزائرية ربيعة جلطي.

بقلم غريبي بوعلام______________________

عازب حي المرجان أو ( زبير كروفيت ) هو بطل الرواية، صاحب جسم ضئيل مشوه، ضخم الرأس، بذراعيين طويلتين، و كفين غليظتين، كأنهما ورقتي الصبار المشوكة، أطلق عليه أصدقاؤه أسم زبير كروفيت ( crevette بالفرنسية ) ( الجمبري بالعربية ) بسب جسمه النحيل و الضئيل جدا نسبة إلى قشرية الجمبري البحرية صغيرة الحجم ذات أذرع طويلة كذراعي زبير، من جهة أخرى لُقِب كذلك كناية و تلميحا من أصدقائه لعضوه الذكري وهم يراهنون على أنه ضئيل جدا وشبيه بالكروفيت.

الشخصية الثانية المحورية في الرواية، هو عباس تشي أو عباس تشي غيفارا، نسبة إلى ذلك الثوري المعروف، هو صاحب بنية جسدية قوية، جميل، ومفتول العضلات، هو عكس صديقه الحميم زُبير الذي يبدو دوما متأثرا به جدا إلى أن صارت صداقتهما متينة وتزداد قوة منذ أن كانا في مقاعد الدراسة و هم صغار.

الشخصيات الثانوية تتمثل في : محند، مصطفى ، و يحي، و هناك العنصر النسوي، نبية و سكينة الروخة و مرلين منروو التي سيكون لها دور تخيلي في الرواية مع زُبير، إلى جانب شخصيات نسوية وهمية أخرى وبأدوار ثانوية

الكاتبة طرحت في هذه الرواية موضوعا نفسيا و اجتماعيا، وحضاريا، حاولت معالجته في قالب روائي أدبي، من خلال تحريك شخوص روايتها في أحداث متواصلة، و تحليل ما يدور في أعماق أبطالها من مشاعر و أحاسيس و أفكار و صراعات داخلية تصل في بعض المواقف إلى ذروة توترها و مأساة خانقة. طوال السرد الروائي تعطينا مؤشرات تلك العقدة النفسية التي كان يعاني منها زبير كورفيت، عقدة نقص سبّبها له جسده المشوه الذي وجد داخله ولا يد له في ذلك . السبب أنه وُلد هكذا، و عندما كَبر أصبح يرى و يعي تلك التشوهات الظاهرة على جسده، زد على أنه وحيد والديه، لا أخ و لا أخت له، و ربما هذا من أسباب توقف والديه عن الإنجاب مرة أخرى خوفا من مولود أخر مشوه، كل هذا جعله يتمسك بصديقه عباس تشي غيفارا صاحب الجسم القوي الطويل العريض المتين و الجميل الذي كان يرى فيه الكمال الجسدي الذي ينقص جسده. منذ أن كانا تلميذين في المدرسة كان يحميه من الذين كانوا يحتقرونه و يضربونه بينما هو لا حول له و لا قوة في الدفاع عن نفسه، فصار يحبه و تعلق به إلى درجة أنه يتألم اذا ما غاب عنه طويلا. أحسنت الروائية في جعل ذلك التقابل بين شخصية عباس و زبير، و لفت الانتباه إلى تلك المفارقة النفسية و الجسدية، الظاهرية و الباطنية لبطلي رويتها، نلمس جيدا ذلك النقص الذي ينخر أعماق الزبير و كيف ينهشه من الداخل، إلى أن صار لديه ما يسمى بالشخصية الانطوائية التي تعتزل الناس وتنكمش في برجها العاجي و تعيش في عالمها الداخلي و لا تحاول التواصل مع الخارج إلا ناذرا. رغم ذلك النقص، إلا أن الزبير يتمتع بكل قواه العقلية، بل فيه من الذكاء ما يجعله يتفوق على الكثير من زملائه، هو أستاذ اللغة و الأدب العربي و عاشق كبير للأدب الروائي، كان ينفق نصف راتبه الشهري في شراء الروايات التي يقرأها بنهم إلى أن تكوّن لديه مستوى ثقافي راق لم يصله الكثير مِن مجايليه ، إلى أن وجد صدى حالته النفسية في شخصية أبي العلاء المعري ( رهين المحبسين، العمى و العزلة ) ذلك الكفيف الذي عرف كيف يتغلّب على عاهته بأن صار ذلك الشاعر الفيلسوف، هكذا صار قدوته، و بهذه الطريقة عوض نقصه الجسدي بفكره النيّر وثقافته الواسعة و خياله الخصب.

أثناء السرد الروائي، يعود زبير بذاكرته إلى الوراء، و تقص لنا الروائية على لسانه بعض ذكريات صباه و مراهقته، ذكريات تثبت لنا أسباب شعوره بعقدة النقص، ومنها استهزاء بعض أصدقائه به حين شبهوه بالكروفيت، حاول التظاهر باللامبالاة ، لكن الأمر أثار غضبه حين علم بتلميحهم إلى أن عضوه الذكري، صغير كحجم الكورفيت الصغيرة، شعر بأن ذلك انتقاص من ذكورته و فحولته. الأمر الذي جعله كلما خلا إلى نفسه في بيته ينزل سرواله ليتأمل عضوه في المرآة إلى أن يحدثه في بعض الأحيان بصوت مرتفع، تتجاذبه مشاعر متناقضة. هنا تلمّح الكاتبة إلى هيمنة العقلية الذكورية المسيطرة في المجتمع التي يربطونها بالعضو الذكري و ليس بمعايير الرجولة الكامنة في خصاله كإنسان . ذات مرة وبينما أصدقاء زبير كانوا متواجدين في بيته كالعادة، وفي لحظة جنون ، صعد فوق الطاولة حين شعر أنه لم يعد يتحمل سخريتهم منه، فأخرج أمامهم عضوه و تحداهم جميعا أن يقارنوه بأعضائهم الذكورية، لكن لا أحد منهم تجرأ، بل تعجبوا من فعلته، حينها شعر ببعض الهدوء في نفسية المضطربة وكأنه استرجع كرامته المهانة، وهو يشهر في وجوههم عضوه ليتأكدوا أنه ليس بحجم الكروفيت كما كانوا يعيبونه، نلاحظ من خلال هذا السلوك كيف يقاوم زبير شعوره بالنقص و كيفية تغطيته و معالجته، من حين لأخر بإظهاره أنه سوي و قوي و هو في أوج صراعه النفسي الرهيب.

من حين لأخر تأتي إلى بيته ( سكينة الروخة ) امرأة تنظف له البيت و تحضر طعامه، فقد كان وحيدا و معزولا، و هي امرأة مطلقة طردها زوجها من البيت، كانت تعمل بالمدرسة التي يعمل بها كطباخة، كان زوجها السابق يضربها لأنها لم تنجب وظنا منه أنها عاقر، و عندما أثبتت لزوجها بالتحاليل الطبية أنه بإمكانها أن تنجب وأن العيب فيه وعليه أن يستشير طبيبا ، ضربها ضربا مبرحا ثم طلقها و طردها من البيت وأهانها، هنا تعود فكرة سيطرة الذكورة في مجتمعنا فلا يتقبل الرجل أن يقال له أنك أنت سبب عدم الانجاب و إن كان هو السبب، لأن الموضوع له علاقة بالعضو الذكري، و كان لسكينة الروخة علاقة جنسية مع زبير أثبتت أن له قدرة على اجراء علاقة جنسية مع أنثى . و رغم أنه كان طيبا معها ومشفقا عليها فلم تدم سعادته معها إذ جاء يوم فلم يجدها في البيت كالعادة تفتح له الباب ورائحة الأكل تفوح في أركانه. هجرته إلى غير رجعة.

عندما أعجبته جارته ( نبية ) أراد أن يخطبها لم يذهب إليها مباشرة و يعرض عليها فكرة الزواج، بل كان يراقبها من النافذة الصغيرة التي في مرحاض بيته، من حسن حظه أن بيته في عمارة مقابلة بيت أهل نبية، هكذا كان يراقبها و يحاول التعرف عليها حين تطل من شرف المطبخ خاصة أيام الجمعة، كان يتمكن من مراقبتها و هي تقوم بأشغالها في المطبخ، هكذا تمكن من إرسال من يخطبها له دون أن يراها عن قرب إلا مرة واحدة في مصعد العمارة و لم تكن له فرصة أخرى ليتحدث معها كي يتم التعرف عليها جيدا. في يوم الخطبة في بيت نبية وهو محاط بأبيها وأمها وأفراد عائلتها وهم يطيلون النظر إليه ، كان محرجا جدا فلم يخلع قبعته التي تخفي رأسه الكبير و لا معطفه الطويل الذي يخفي جسم النحيل و ذراعيه الطولتين، تسيطر عليه حالته النفسية المضطربة تلك التي تظهر على سلوكاته في الحياة، خاصة عندما يتعلق الأمر بعلاقته مع الآخرين. إنها شخصية لا تريد الخروج من قوقعتها الموصدة، و طوال السرد الروائي تلتقط الروائية هذه اللقطات السلوكية، تثبت لنا هول الاضطراب النفسي الذي يعاني منه زبير، و تحلل بذكاء شخصيته من خلال ظاهر تصرفاته لتلج إلى باطنه مهزوز الأركان، و كأنها تستعمل نوع من التحليل النفسي الذي تنتهجه المدرسة السلوكية.

على جدران غرفة نوم زبير توجد صور عديدة لفنانات غربيات فاتنات، منها ( ماريلين منروو ) التي فُتِن بجمالها الساحر إلى أن عاش معها قصة غرامية، كان يراها تزل إليه من الصورة المعلقة، تجلس بقربه يتبدلان أطراف الحديث، رغبت مرة في تناول كأس خمر معه و لا يوجد عنده في البيت هو الذي لم يتناوله من قبل ، فنزل إلى الشارع و اشترى زجاجة خمر، في البيت تناولا سويا بعض الكؤوس، كان يعيش هذه اللحظات على أنها حقيقة لا غبار عليها، و يشعر بسعادته المتخيلة و يحياها بوجدانه رفقة تلك الفنانة المعلقة على الحائط، كانت لحظات راقية الإحساس رفيعة المشاعر، التي لم يجدها لا مع سكينة الروخة و لا مع خطيبته نبية و هن نساء حقيقيات و واقعيات، هذا السلوك يؤكد أكثر و أكثر مدى انطواء شخصيته و انفصالها الكلي عن العالم و الحقيقة الواقعية، إنه مبتور عنها بقوة بعد أن لفظه المجتمع، بسبب صورته أو ربما خيل له ذلك إلى درجة أنه لم يتمكن من فرض نفسه في الواقع.

عباس تشي أو تشى غيفارا، شخصية منفتحة على العالم و الواقع رغم اضطراباته النفسية التي سببتها له مقتل والديه أثناء العشرية السوداء من طرف التطرف الإسلامي، إلا أنه عرف كيف يخرج من محنته تلك بعدم استسلامه لها، حيث عمل في البحرية كبحار، قضى معظم حياته في السفن على سطح الماء، هذا ربما ما مكّنه من الهروب من مشاكله النفسية إلى شساعة البحار و المحيطات، حيث تمكن أن يغرق فيها أحزانه و همومه التي كانت تعصره من الداخل، كان يقضي أياما طويلة على متن السفن و لا يعود إلى مدينته إلا قليلا، حينها يلتقي بصديقه الوفي زبير كروفيت، تمكنت الكاتبة من جعل ذلك التقارب بين الشخصيتين بعد أن وصفتهما أثناء سردها من خلال سلوكهما، و كيف أثّر عباس كل ذلك التأثير الإيجابي إلى أن يشتاق إليه زبير كلما طال غيابه عنه، كان لا يشعر بكماله وتوازنه إلا و هو معه. تدرّج عباس في عمله في البحرية و دخوله في عوالم أخرى إلى أن صار وزير الشؤون البحرية، و عرض على زبير أن يخرج من قوقعته الموصدة، و يترك التدريس و الأدب ليدخل معه في عالم الشهرة و الأموال، إلى أن عاب عليه اهتمامه الكبير بالثقافة و الأدب، هنا نرى كيف ينظر رجال الأعمال و الأموال إلى كل من يهتم بالفكر و الثقافة بصفة عامة، و مرة دعاه إلى حضور عُرس ابن القبطان الذي يعمل معه، فاستجاب للدعوة و ذهبا سويا إلى العاصمة في سيارة فخمة أدهشت الزبير من فخمتها التي لم ير مثلها في حياته، لكن خلال الطريق من وهران إلى العاصمة كان زبير يشعر بوخز في صدره بألم في قلبه وضيق التنفس أحيانا ، وأثناء العُرس دعاه إلى المنصة و هو متخفي في معطفه الطويل و قبعته الكبيرة كالعادة كلما اضطر إلى مقابلة الناس، في البداية رفض الصعود إلى المنصة، و بعد الإلحاح عبر مكبر الصوت صعد المنصة و احتفل به عباس و قدمه لجمهور المدعوين الواسع والمنتقى من علية المجتمع، وكان الإعلان عن تنصيبه كوزير للشؤون البحرية وفي نفس الوقت قرانه على حبيبته التي كان يعرف الزبير علاقته بها منذ زمن طويل، حيث طلب منه أن يرقص تلك الرقصة الجميلة التي كان يرقصها زبير حين كانوا يجتمعون لمراجعة الدروس في شقته، في البداية تردد لكن تحت الإلحاح استجاب زبير، بعد أن رمى قبعته و معطفه الطويل، و أخذ يرقص، كان هدف عباس أن يحاول إخراج الزبير من حالته النفسية المزرية و يدخله في عالمه شاسع الشهرة الواقعي جدا جدا، لبى زبير نداء صديقه رغم الألم في صدره وضيق التنفس الذي كان يشعر بازدياد حدته . رقص على إيقاع أغنية جزائرية مرحة معروفة رقص عليها الكثيرون و اشتهرت قبل دخول البلاد في مأساة العشرية السوداء.. رقص زبير بكل جهده ليكون عند حسن ظن صديقه عباس التشي لكن ما لبث أن ازداد ألم صدره خارت قواه و تغير لونه و شحب وتوقف قلبه فسقط أرضا بعد أن قتله قلم الروائية بكل برودة أو ربما شفقة عليه لتضع حدا لمعاناته النفسية التي دامت طويلا.

أثناء جنازة زبير حضرت سكينة الروخة، لاحظ بعض الناس أنها برفقة طفل صغير له نفس تشوهات زبير المرحوم، في هذا إشارة إلى أن الزبير كانت له القدرة الجنسية على الانجاب تماما كما أن سكينة التي اتهمها زوجها بالعقر وطلقها لعدم قدرتها على الإنجاب ، من جهة أخرى هناك تلميح إلى وجود مورّث جيني في دم زبير انتقل إلى ابنه غير الشرعي، و ربما هذا سبب عدم انجاب والديه لأكثر من طفل واحد خوفا من ذرية أخرى تحمل نفس التشويه الخَلقي، حتى جده المجاهد لم ينجب إلا والده، ربما في هذا التشوه المتوارث تلميح سياسي وتاريخي ترمي إليه الروائية، في الحقيقة الكاتبة لم تقتل بطلها لأن بذرته التي غرسها و هو لا يعلم أنها خرجت للحياة، تُرى كيف تكون حياة ( زبير الصغير ) هل تكون صورة طبق الأصل لحياة والده المرحوم، أم لجده أم لأب جده الأول المجاهد، هل سيتغلب على محنته المستقبلية؟ مع العلم أنه بلا أب و هو غير شرعي مجهول النسب من امرأة مطلقة. هنا الروائية تطرح هذا السؤال على القارئ بأسلوب غير مباشر، تترك القارئ يتخيل نهاية أخرى أو ربما مشروع رواية أخرى كتتمة لعازب حي المرجان، خاتمة الرواية كانت مدهشة كثيرا لأن القارئ لم ينتظرها، جعلته يطرح الأسئلة التي تنشّط خياله.

كعادتها الروائية ربيعة جلطي لا تجعل القارئ الذي يبدأ قراءتها لها يترك روايتها إلا بعد أن يفرغ منها، تعرف كيف تجعله يعانق روايتها و يضمها إلى صدره، لتربطه بحبال تشويقها التي يجد صعوبة كبيرة ليفك نفسه منها، كما عرفت كيف تجعل في هذه التحفة الفنية رسائل مشفرة تبدو بسيطة إلا أنها في حقيقتها عميقة في معانيها الخفية، تنتظر فكرا نيرا من ناحية القارئ، ليفك رموزها المبثوثة في لوحتين فنيتين، لوحه نفسية اجتماعية و لوحة فلسفية وتاريخية ، عرفت كيف تجمع بينهما بحرفية أدبية راقية و ذكاء فني جميل.

---------

غريبي بوعلام / الجزائر.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

جميع الحقوق محفوظه © أقلام

تصميم Noro Soldat