آخر الأخبار
... جاري التحميل

أقلام/ المقاربة التاريخية و تعدد الأصوات في البنية السردية في رواية الديوان الاسبرطي للروائي عبد الوهاب عيساوي بقلم الروائية حميدة شنوفي

0



المقاربة التاريخية و تعدد الأصوات في البنية السردية في رواية الديوان الاسبرطي للروائي عبد الوهاب عيساوي ______________

يسوقنا التاريخ كروائيين في كل مرة نوجه فيها رغبتنا نحو قولبته روائيا، إلى وجوب التفصيل في إحدى ثغراته التي ينبغي أن يكون العمل الروائي إشباعا لها، سواء من حيث الزمكان أو الشخوص أو حتى الأحداث.

وكما يصرح عديد الكتاب الذين اتخذوا من هذه المادة الخصبة منهلا للكتابة الروائية، وجعلها مادة دسمة سهلة الهضم بالنسبة للقارئ الشغوف بالاكتشاف أو لاشباع ميلوله أو حتى لتدعيم موسوعته المعلوماتية، والمضطلع عموما بشتى ميادين التاريخ، العاشق للخوض في اكتشافها، و الراغب في استقبالها في شكلها الروائي الذي يحول دون لجوءه إلى النصوص التاريخية المملة، من دراسات و اجتهادات و كتب تاريخية تعج بالتواريخ والشخصيات والأحداث المملة.

يصرح أن العمل الروائي وحده الفضاء الخصب الذي ينبغي أن يحتوي المادة التاريخية، و أن الجهد المبذول لجعل المتلقي راضيا بما سيتذوقه داخل المتن الروائي، لا ينبغي أن يحيد عن ما تستوجبه تقنيات الرواية.
لذا يميل هذا الأخير إلى العمل الروائي كأفضل الحلول وآخرها، كما يستغل الروائي هذه الحجة لتقديم التاريخ بتشعباته وتداعياته واختلاف مصادره، و تعدد الآراء فيه، صدق المعلومة فيه من زيفها؛ منسقا في هيئته الروائية و مُتقبلا هضمه من قبل القارئ.

ورغم أن العمل الروائي لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتمادة كمرجع للمعلومة التاريخية البحتة، الا أنه لا يمكن انكار فضل الرواية في احتواء المادة التاريخية؛
فنحن نؤمن ان المادة التاريخية لا يمكن أن يليق بها سوى العمل الروائي.

إن الجهد المبذول في جعل الرواية مسرحا فضفاضا للمعومة التاريخية، مقيد الى حد ما بوجوب الابتعاد عن تقديمها بشكلها الفاضح الذي قد يحيد المادة الروائية عن صنفها، فلا يعود بالامكان اطلاق لفظ رواية على فصولها، بقدر ما ينبغي تصنيفها ضمن أصناف أخرى قد تتباين بين الدراسة التاريخية، النص التاريخي، أو البعث الحي للتاريخ من جديد في نص موازي بعيد كل البعد عن صنف الرواية، ووجوب اعتماد كافة تقنيات بناءها سواء في حركة الشخوص داخل المتن الروائي، قوة الحبكة وتأثيرها على المتلقي و اسالة لعابه لتذوقها، تأزم الأحداث و تراخيها ونهايتها، وكذا بدايتها التي لا ينبغي للوهلة الأولى اشعار القارئ وكأنه يحمل بين دفتي يديه مجرد كومة أوراق تدعو بشيء من التفصيل إلى التعرف على حقبة من حقب التاريخ فقط. وكأن اللجوء الى العمل الروائي لا جدوى منه.

وهنا وجب التنويه إلى أن إخراج المادة السردية في شكلها الحقيقي، بعيدا عن اسقاط التاريخ بكل حيثياته في العمل الروائي وجبت فيه الروية، حسن اختيار حركة الشخوص داخل المتن، وكذا الابتعاد عن أخذ التاريخ دون تمحيص مسبق ودراسة بكل تبايناتها حتى يتسنى للشخوص الحركة بأريحية، وكذا ابداء آراءهم التي قد تأخذ من شخصية الروائي حد التقييد، مسقطا إياها كراوي عليم بكل ما يؤمن ويدعو له، في ذهن المتلقي إلزاما، جاعلا من كل الشخوص وسيلة لفرض رأيه على القارئ، دون أن يترك لهم حيزا للتعبير عن أفكارهم بديمقراطية روائية يحق فيها لكل منهم المحاربة من أجل اثبات صدق آرائه، رغم تباينها، ما يجعل المتلقي هو الآخر ملزما بتحمل الاستماع الى رأي الكاتب من خلال شخوصه وعيش تأزم آراءهم.
لكن عكس ذلك ما سيفتح أمام ذهن المتلقي رغبة في اكتشاف كل شخصية على حدى، وما الذي قد تدعو اليه، والأهم طرح الأسئلة التي من خلالها إما أن يجد القارئ نفسه مستعدا لمواصلة القراءة، وإما مجبرا على ترك العمل لملل فيه أو لعدم تمكن الكاتب من إثارة رغبته في اكتشاف ما الذي قد تحمله صفحات العمل من أحداث لاحقا...خاصة إذا ما كنا أمام عمل روائي تاريخي تفوق عدد صفحاته ال400 صفحة.
وطرح أسئلة وجودية عما اذا كان لشخصية من الشخوص الحق والمصداقية فيما تدعو اليه دون الأخرى، هو المفتاح الذي يدفع المتلقي لمواصلة القراءة حتى فك اللبس، والحصول على إجابة وافية.
وهذا ما لمسناه في رواية الديوان الإسبرطي للروائي عبد الوهاب عيساوي الحائزة على جائزة البوكر لهذا العام.

إن المتمعن في الأحداث التاريخية بوجه عام والشخوص بوجه خاص في رواية عبد الوهاب عيساوي، يجعل المضطلع على جل الأعمال التاريخية يتأكد من أن الديوان الاسبرطي قد اعتمدت على التاريخ من أجل اثبات صدق المعلومة التاريخية من وجهة نظر تعددت ضمن خمس شخصيات جعلها الكاتب حرة طليقة في سرد أحداث الرواية، جاعلا من العمل الروائي التاريخي مسرحا يمكن للشخوص التحرك فيه بحرية دون ردع.

إن متلقي متن رواية الديوان الاسبرطي كقارئ، يختلف عن تلقيه كناقد، قد تذهب به خبرته النقدية إلى أبعد مما قد يصل ذهن القارئ العادي، خاصة فيما يتعلق بأحداث الرواية وشخوصها باعتبارهما العنصران اللذان قد يركز فيهما القارئ العادي قبل تركيزه في أشياء اخرى، دون أن نغفل الحقبة التاريخية التي من المتوجب على كليهما معرفة الحيز التاريخي الذي تدور فيه.
لكن ما لا يمكن عدم ملاحظته، سواء أكنت قارئا عاديا أو ناقدا في هذا العمل، هو تركيز الكاتب عمدا على شخوص الرواية دون أحداثها.
وهذا ما عمد الكاتب إلى جعله أولى أولوياته أثناء فعل السرد.
جاعلا من تلك الأصوات الخمس حسب ما ورد في هذا المتن، تتحرك في نطاق حلقي تعود بنا كل منها في كل مرة تتوقف فيها تاركة لغيرها فرصة البوح، وجاعلة منا متأكدين من أنها ستعود مرة ثانية للمواصلة عند النقطة التي توقفت فيها.

إن تباين الشخوص وتركيز الكاتب على بعثها من جديد في كل مرة تتوقف فيها عن البوح للضرورة السردية، من خلال خمس فصول كاملة تديرها خمس أصوات، لم يحد الرواية عن الهدف الذي رسمه لها الكاتب في جعلها الرواية التاريخية الأحق بحمل هذه التسمية، لذا يمكن أن نشهد له بالاحترافية في بلورة السرد تاريخيا في فترة ضيقة تجلت بأريحية سردية تعددت فيها الأمكنة، بذل فيها الكاتب جهدا ملحوظا مخططا له بذكاء في فترة أبرمت فيها صفقة استسلام سلمت فيها الجزائر طوعا لاحتلال فرنسي في زمن هو الاخر كان حافلا بالأحداث، أهمها معركة (واترلو) وخروج الفرنسيين مهزومين منها، خروج الأتراك من الجزائر ومخلفاتها، والأهم بداية حقبة جديدة للفرنسيين في الجزائر.
فنرى أن ادراج كل هذه الأحداث، هو ما فتح ذهن الكاتب لخلق أصوات خمس من منظور داخلي للشخوص، دافعت طيلة بوحها في المتن الروائي عن آراءها المتباينة، برمجت هي الأخرى إلى ثلاث أصوات عامة: شخصيتان فرنسيتان، شخصية عثمانية تتأرجح بين الولاء للاتراك والفرنسيين، وشخصيتان من عامة سكان المحروس، من منظور خارجي تتحكم فيه الفترة الزمنية التي تناولتها الرواية والمتجسدة بين العهدين العثماني والفرنسي على الجزائر.

إن تعدد الأصوات التي جعل منها الكاتب العنصر الأكثر فاعلية في الرواية، والتي قد تتباين فيها الآراء بين معتقد من أنها إحدى أسباب ضعف المتن الروائي و تلاشي عنصر التشويق، باعتبار أن لا جديد تأتي به الشخوص بل هي ذات الفكرة التي ستطرح من وجهات نظر مختلفة.
وبين مأكد ومؤمن من أنها العامل الأول في بناء هندسة محكمة لأحداث الرواية، والتفصيل بشيء من الحداثة في السرد الروائي لا نرى له تواجدا عند عديد الكتاب حاليا.
فنجد أن الديوان الاسبرطي، هذه الرواية التي حملت عنوانا مستفزا ذهن القارئ لضرورة دراسة هذا العمل واكتشاف علاقة العنوان بمتن الرواية، خاصة أن لا تاريخا قد يَبني علاقة بين الجزائر واسبرطة؛ المدينة اليونانية المؤسسة خلال إحدى حقب التاريخ قبل الميلاد، مستفزة مرة أخرى ذهن المتلقي لضرورة دراسة تحرك الشخوص و تأثير تعدد أصواتهم على البنية الحكائية للعمل، فنجد أن كثرتها وتباين النزعة الذهنية لكل منها قد حقق نوعا من الديمقراطية في الآراء فنجد:
(صوتان فرنسيان متباينان و متقاربان في الآن ذاته، ديبون: الصحفي المدافع عن القيم الانسانية حتى ضد بني بلده، كفيار: المخطط الفعلي لحملة الاحتلال الفرنسي على الجزائر.. هذا فضلا عن ثلاث اصوات متبابنة بين الصوت التركي و الجزائري، متجسدة في ابن ميار: المخلص للسلطة التركية من جهة و السلطة الفرنسية من جهة أخرى، و حمة السلاوي: الوطني المدافع عن وطنه مهما كانت الظروف..إضافة الى الصوت النسوي الوحيد في الرواية والمتمثل في البغي دوجة)

إن حركة الشخوص داخل المتن الروائي لرواية الديوان الاسبرطي والمدرجة بشيء من الترتيب الفاضح أثناء بوحها، يجعل الرواية وكأنها سرد بالأولوية، فنجد الشخوص الخمسة ((ديبون كفيار ابن ميار حمة السلاوي و دوجة)) في تناوب واضح على السرد بما يطلق عليه بتعدد الرواة، فرواية الديوان الاسبرطي لم تعتمد على راوي واحد عليم، و إنما تعدد فيها الرواة في بلورة فترة من فترات تاريخ الجزائر .

إن تغليب الكاتب لشخوص الرواية وتفضيل أهميتها قبل تفصيله في الأحداث، وإعطائها القيمة الأكثر بروزا في العمل، ونحن نعلم أن الرواية التاريخية وجب فيها اعطاء أولوية غير مبالغ فيها للحدث التاريخي على حساب الشخوص، يجعل من العمل رغم أن لهذه الاخيرة (الشخوص) الفضل في مقاربة الحدث التاريخي من ذهن المتلقي وجعله أكثر مرونة وقابلية للاستيعاب عملا يحسب للكاتب في مساره الروائي، باعتباره عملا متفردا عن باقي الأعمال التاريخية التي كتبت قبل هذا العمل.
في انتظار أعمال أخرى تثبت ما اثبتته هذه البنية الروائية من تمكن سردي تاريخي متكامل.. والا ستبقى الديوان الاسبرطي الرواية الوحيدة المستحقة لحمل لقب الرواية التاريخية المتكاملة بكل ما تحمله التسمية من معنى.

حميدة شنوفي

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

جميع الحقوق محفوظه © أقلام

تصميم Noro Soldat