القاتل البريء
كل شيء كان هادئا..كل شيء كان يبعث إلى الأمل...إلى التفاؤل..حين حلّ الربيع زائرا على قرية الورود الحمراء..محملا في كتفه الأيمن بعض قطرات المطر وفي الأيسر شمسا خجولة دافئة...
تشير الساعة إلى السادسة صبحا بتثاؤب...حين استيقظ مروان كعادته ليتوجه إلى المدينة التي تبعده بساعة ركوبا الحافلة أو الطاكسي...
كانت الأم لآلة فاطمة قد هيأت له قهوته الصباحية بالخَفّافِ كما يشتهيها...وكانت كلما أنهى قهوته تفاتحه في أمر الزواج..
_"حان الوقت لتتزوج يا بني...انا كبرت خلاص" ...وهي تمازحه على لذة القهوة التي لن يحظَ بمثلها كما كان يقول...وفي عمق المزاح حقيقة مؤلمة...حيث أن لآلة فاطمة كبرت وتجاوزت الستين من عمرها...وأصبحت تخاف كثيرا أن تفارق الحياة وابنها الوحيد لم يستقر بعد...وصحتها في تدهور مستمر دون أن تُشعر مروان بذلك...لكن مروان راح يبحث عن أشياء أخرى ويفكر في أمور ومشاريع أخرى بعيد كل البعد عن فكرة الزواج...فمنذ الخيبة الأولى التي أصابته ، حين أحب فتاة حبّا لم يعشه أحد من قبله.. فلما كسبت ثقته خانته مع صديقه الذي يصغره بخمس سنوات ويكبره بالمال والجاه ..فقد الثقة في النساء كلها...حيث كان يقول في كل مرة " بعد أمك لا تثق في النساء أبدا.."
أحبها بصدق...فهي الهواء الذي يتنفسه كل يوم...لم يكن يتصور أنه سيأتي يوم ويفارقها فيه...لكن حدث الذي حدث وافترقا ..بقي هو أعزبا..ينعل النساء كلما سنحت له الفرصة...بينما عاشت هي فاقدة لعذريتها مقابل جولة في السيارة وسندويش شاورما على شاطئ البحر...
_"اعتني بنفسك بني...فالدعوة متفرحش...كل القنوات التلفزيونية تقول بوجود فيروس معدي خطير..."
_" ههه...وتصدقين ذلك يا يمَّا ؟...كلش خرطي...السيستام (النظام..السلطة) قادر على كل شيء..."
_"يا وليدي...الوقاية مليحة...واش خسرت أنت...يا وليدي لعزيز"...
وهي تُقبّل رأسه وتعانقه كما أنها تخاف من فقدانه في كل لحظة...
_"كاش ما نجيبلك لعشية يمَّا...."
_"حبة تفاح برك يا وليدي اذا مراهاش غالية...".
لم يكن مروان يصدق ما كانت تتناقله قنوات العار كما يسميها...فهي تعتمد على تزييف الحقائق وتغليط الرأي العام...لأنها آلية من آليات السلطة التي لا تريد أن تتزحزح عن كرسي الحكم منذ آلاف السنين...وبذلك لم يحمل كلام أمه محمل الجدية...ففي الوقت الذي تعيش فيه المدينة الحيطة والحذر...بقي مروان يزاول عمله في بيع مواد التنظيف وأدوات منزلية..وهو يفكر في مشروع العصر كما يسميه .. وهو شراء سيارة ألأودي ومنزل على الشاطئ.
تمرُّ الأيام ثقيلة والمدينة تكاد تعلن الاستسلام للسكون والصمت الرهيب الذي حلّ بها ...لكنّ مروان لم يُعِر لذلك أية اهتمام..بل بقي يزاول عمله من الثامنة صباحا إلى غاية الخامسة مساء ليعود إلى القرية وفي قلبه حلم شراء الاودي.. يكبر شيئا فشيئا... لم يكن يصدق بأن ما تتناقله وسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي هو حقيقة لا مهرب منها...فالفيروس حتى وإن صُنِع من طرف أيدٍ بشريّة.. فإنّ السلطة التي يتهمها لا يمكن أن تصنعه....ربما تستورده بأية طريقة دون وعي....
في طريق عودته إلى القرية التقى بالدا محند...وحين أراد تقبيل رأسه...صدّه عنه .. وكأنه رأى فيه وحشا أسودا بمخالبه الحادة يكاد ينقض عليه..
... _"لا يا وليدي...التحية تكفي....مراكش تسمع بأن الفيروس فتاك وقاتل..!؟....منحبش نموت بهذه الطريقة..." _
"آه يا الدا محند....الموت واحد والأسباب عديدة....قاع نموتوا.." _
"روح موت وحدك....وهو يمازحه مبتسما.." يا وليدي الحذر واجب...واش خسرت إذا حاذرت روحك؟ ....
نظر إليه مروان نظرة عميقة...ثم قال: _"ماذا فعل النظام فيكم...." _
"لا نظام ولا هم يحزنون....العالم كله يحذر من الفيروس...يا وليدي لا تستهزئ بالفيروس...يمكن أن تصبح قاتلا وأنت لا تدري....خذها نصيحة مني...الوقاية ضرورية في هذه الحالة"
"... _صحيت الدا محند...بلاك.. بلاك هذه الذبانة قد تعديك...هههه "... وهو يقهقه بأعلى صوته كمجنون فقد آخر ما تبقى من عقله
_ " الدولة الدا محند قادرة على كل شيء...أصلا هي من جعلتنا لا نصدق كل شيء...فقد عشنا حكم الكادر وقد نعيش حكم البيدون أو شيء آخر"...
قد تصنع السخرية والاستهتار أبطالا وهميين...وترسم لهم طرقا ملتوية كلها تؤدي إلى نهاية حتمية ...
العالم في تحول من يوم إلى آخر...وأضحى يشبه مقبرة ضيقة مظلمة...مقبرة تجمع كل الديانات في دين واحد وهو الله الواحد...مقبرة صنع منها الفيروس مخبأه...يخفي فيه ضحاياه البريئة...الفيروس الذي لا يفرّق بين أسود البشرة وأبيضها.. بين الملتحي و الأمرد....هو فيروس مات صانعه...وبقي الله الصانع الوحيد الذي يتحكم في صنعه كما يقول إمام مسجد القرية الذي لم يحظ بالتعليم في صغره مقارنة بأقرانه .. رغم ذلك كسب احترام سكان القرية له..فهو الآمر والنصوح والناهي ..وإليه ترجع الأمور....
بدأت مصابيح المدينة تنطفئ واحدة تلو الأخرى...حين أعلنت السلطة الصحية والسياسية والاقتصادية الحجر الصحي....فلم يكن من مروان سوى غلق محله...فلما اشترى كل حاجيات البيت من مأكولات ومشروبات ..عاد إلى المنزل مكسور الخاطر.. مستسلما لشعار " ابق في بيتك"
" تفووووو...يا الكلاب " وهو يسب سيارة الدرك التي مرت من أمامه
" فرضتم علينا المنزل كالنساء"
حين وصوله إلى المنزل لم يجد أمه تنتظره على عتبة الباب كما تفعل كل نساء القرية...وإنما وجدها مستلقية على فراشها ..ترتجف و تتصبب عرقا ...
دون أي يعرف ما أصابها.. أخذها في استعجال إلى المستشفى على متن سيارة أحد جيرانه.. وحين وصولهم أدخولها إلى الاستعجالات..وبعد لحظات خرجت الطبيبة وأمرت بعزل مروان وجاره..ووضعهما تحت المراقبة الطبية...وأعلنت حالة الطوارئ..
" أمك مصابة بالفيروس يا مروان" ..قال الجار والخوف يسرق منه الكلمات.. لأنه يعلم بأن هذا الفيروس سريع التنقل والانتشار..وهو فيروس معدي...ودون تفكير منه قال:
_ " تبا لفعل الخير في هذا الوقت" وهو يضرب على رأسه وينعل الساعة التي اشترى فيها السيارة.... لكن مروان لم يحرك ساكنا.. بل بقي مصدوما لا يعرف ما يقول.
لأول مرة يشعر بأنه ارتكب خطأً.. قد يودي بالآلاف من الأشخاص..عادت إلى ذاكرته توسلات أمه ونصائح الدا محند التي كان يسخر منها...فلا الشارع ولا السيستام كما يقول يمكنه أن يوقف عجلة الزمن.. ويصلح ما أخطأ فيه..
قد تفارقنا الأرواح وهي في أيدينا...وحين يئنّ فراغها نشعر بفقدانها...فالتمادي في عدم التصديق وتكذيب كل ما تقوله الدولة..قد يجرنا إلى التهلكة دون أن نعي ذلك...وقد يصنع منا في نفس الوقت قتلة تكون درجة وعيهم الصفر...
أتحرق أمي دون أن أواري ترابها..؟ ما هذا العقاب يا الله؟.
بقلم الأستاذ: سركاستي موراد
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire