أسبيل رفيدة
هدوء تام و أفكار تجول عبثا لا تجد من يتبناها، ظلام دامس تتخلله بعض الشرارات عند احتراق أحد الأعصاب.. ضباب يحول بيني و رؤية ما بداخلي بوضوح.
رأسي مثقل و كأن العالم كله يسكنه لكنهم في وقفة صمت ترحما على أحد الموتى منذ زمن.. حدادهم طال و لم ينبس أحدهم ببنت شفة. لم اعتد على كل هذا الهدوء يوما لأنهم لم يصمتوا و لو لدقيقة منذ عرفتهم -من هم؟ إنهم أنا..
عجوز سبعينية مخضبة اليدين لم تبتسم يوما، نكدية لأبعد حد، لا تحب أحدا و تدعو الجميع بالمدللين الحمقى.. لها نظرة جانبية قد تقسم الحجر نصفين، إذا استمعتم لحديثها مع أختها العشرينية -لا تستغربوا فالعمر هنا لا يحتسب بالأعوام- لقلتم أنهما من مجرتين مختلفتين .. أختها نسخة مصورة عن المرح و الجنون، تنط من هنا الى هناك، تغني ببشاعة صوتها و لا تكترث حتى أنها تصيبني بالصداع أحيانا، صديقة الجميع محبة للألوان و الباليه، و الأسوأ من هذا كله أن لها توأما.. اسمه شجاع، يقدم على كل ما يحلو له و لا يمضغ كلامه أبدا بل يبصقه على كل من أثار غضبه، واثق من نفسه و لا ينتظر المساعدة من أحد، إن أراد شيئا فعله حتى وإن عارضه الكل، متمرد يابس الرأس يكره الضعف و الضعفاء حتى أني أظن أنه السبب في كون تلك الزاوية البعيدة ملجأ للمنطوية، لا بد أنها تخافه؛ فهي خمسينية هزيلة، دائمة الاكتئاب و الشحوب، قليلة الكلام مستسلمة للحزن و الآلام تعزف التشيلو في أواخر الليل و كأن نغماته تؤنس وحدتها حتى أن الأسود الذي ترتديه لا يليق بها و إن سألتها ما بك؟ فهي حقا لن تعرف الإجابة .تحاول الطيبة أن تجد لها حلولا لتخرجها من قوقعتها رغم استعصاء الأمر.. فهي هكذا لا يهنى لها بال حتى تساعد كل من حولها، تتألم لآلامهم أكثر منهم و تسعى جاهدة لمداواة جروحهم و إن سألتها كيف حالك؟ ستبتسم و تقول دعك مني، كيف حالك انت؟ بينما هناك الأنانية تجلس على الأريكة غير آبهة لما يدور حولها.. تأكل، تشرب، تنام، تنام و تنام ايضا فهي العنصر الحيادي في العائلة الذي لا ينفع و لا يضر، كل ما يهمها السلام النفسي لكن إذا ما ظُلمت تتحول لساحرة شمطاء تبيد كل من طالها و لو بكلمة... هناك أيضا طفلة الخامسة، عاشقة أفلام الكرتون تذهب بسنعود بعد قليل و تتذكر ب "شيء آخر" كجد جاكي شان.. لها عالمها الخاص أين صادقت الجاسوسات و فتيات البوبكسي. تنظر لها مراهقة الثامن عشر بازدراء في كل مرة رأتها هكذا و تسخر منها في حال ما بكيت على موت العم فيتاليس أو حدوث مأساة كرتونية أخرى، فهي معتدة بنفسها بعض الشئ، صديقة المرايا تذوب حبا في شعرها الطويل، لا تترك طلاء أظافر إلا اشترته و لا خلطة تجميل إلا جربتها، محبة للأغاني و الأفلام، دائما ما تنهرها المتقية 😇 و تحاول صقل أفكارها و ابعادها عن ذاك العالم لكن دون جدوى... نعم إنهم أنا.. أنا كل هؤلاء.
أحيانا أتمنى أن يستطيع العالم أن يستمع لحجم الضوضاء التي يثيرونها عند حديثي مع أحدهم.. فتلك تقول أغلقي فاكِ و دعك منه و الآخر يقول ألكميه على وجهه فأنا لم أحب طريقة قوله لصباحك طيب، أما الأخرى فتحلل نبرة صوته و تقول اسأليه ما به فهو يبدو على غير ما يرام، كل هذا لأستطيع في الأخير الرد ب "صباحك أطيب عمو".. هكذا هم في صراع دائم لفرض سيطرتهم لكنني تعودت على هذا.. ضجيجهم المزعج أحيانا و المضحك في أغلب الأحيان هو ما يجعلني أحس بالحياة. أحب شوشرتهم تلك التي تزيد قلبي نبضا و تجعلني أبتسم في الباص كالمجنونة، لذا فأنا لا أحس أبداً بالوحدة حتى و إن كنت آخر مخلوقات الأرض.
لكن أين ذهب كل هذا الآن؟ ما هذا السكون الذي خيم عليهم فجاة؟ ماهذا الهدوء القاتل؟ أين جنون تلك التي لم تهدأ يوما و ضحكتها التي تثير الضحك في حد ذاتها؟ أين إصرار الأخرى على الاستماع إلى أغنية "ماروكو" و إن لم أفعل لضلت تغنيها حتى الثالثة صباحا و لا تتركني لأنام؟ أين أنت يا شجاع؟ أصرخ، أشتم لكن فقط أرجوك لا تسكت هكذا و تدع صوتي للصدى الداخلي... أين أنتم؟؟؟ لقد أصبحت الحياة كطبق مأكولات غير متبل، صحيح يسد الجوع لكنه من دون طعم.. لماذا استسلمتم و تخليتم عني هكذا و أنا في أوج حاجتي لكم، أصبحت لا أعرفني حتى ملامح وجهي أبت أن تترجمها المرآة. أين أناقتك أيتها النرجسية؟ و مابالك ترين المنكر و لا تتحدثين يا متقية!.. إن كنت حزينة فابك كما اعتدت أيتها المنزوية أم أنك تخلصت من نكدك أيتها العجوز؟
ها أنا ذا أحس باللاشيء الذي لطالما خشيته، بالوحدة وسط جمع من الناس، لا أفهم ما يقولون ولا أكترث حتى. لا كلامهم يسليني فأضحك و لا يحزنني فأنزعج، مثلي مثل قطعة الأثاث أعلى الرف التي لم يلحظها أحد.. و رغم أصواتهم المتعالية و ضحكاتهم الصاخبة إلا أنني أنظر لهم كأصم يحاول قراءة الشفاه فيعجز.
لأول مرة لا أجد الجواب على "من أكون؟". أريد أن أصرخ في وجه أحدهم من دون سبب، أن أضحك بهستيريا حتى أقع ولِم لا أقوم لأرقص من دون موسيقى كهاربة من مصحة المجانين.. فقط أريد أن أفعل شيئا بدل الخمول الذي أصابني، حتى معدتي أصبحت تترجاني للقمة صغيرة أسكت بها صوت الرعد ذاك لكن...
-لكن ماذا؟ أ ستستسلمين بهاته السهولة؟ *صوت خاقت يكاد يكون همسا*
-حكيمة؟!!! أ لازلت هنا؟ مفضلتي.. كيف نسيت أن أخبركم عنها! .. جليسة الكتب، تنطق حكما و كلامها دائم الاتزان، لا تكره أحدا لكنها لا تصادق أيا كان. .. لا تضحك لكنها تبتسم، لا تبكي لكنها تحزن، شعرها مرفوع دائما على شكل كعكة، ترتدي نظارات سوداء الإطار و تضع موسيقاها المفضلة لتغوص في عالم الكتب، ينطق خيالها أحيانا بصور تترجمها بالحبر على بياض الورق، تحب الفضاء، الثقوب السوداء و الدودية، المخلوقات الغريبة و الميكروسكوبية.. لها تفسير لكل ما يحدث و الجميع يحبها حتى العجوز النكدية لم تعد ترمقها بنظرتها المخيفة.
-نحن لم نتخل عنك، كل ما في الأمر أننا مثل "تينكر بيل" بدأت شعلتنا في الانطفاء و لم نعد نقو على كل ما قلته سابقا.. كنا نحيا بك و بإيمانك فينا فكم من مرة وُصِفت بالانفصام و لم تأبهي. فهذا يدعوك للنضج و الآخر ينصحك بطبيب المجانين لكنك في كل مرة تجيبين ب:اهتم بشؤونك.. بدأ الأمر كله حين وجد الشك إليك طريقا فكتبتِ " أظن أن قوتي تلك ما هي إلا نار حارقة، جشعة تأكل كل ما بداخلي من عزيمة و قدرة التحمل، من صبر و جرعة الأمل التي أحيا بها" هنا أفتك المرض بشجاع و رغم طلبات النجدة إلا أنك لم تستجيبي، و هكذا توالت سبل الظنون الزائفة و سقطنا الواحد تلو الاخر حتى وصلت إلى ما أنت عليه من حال اليو....
- أأنت بخير؟
-اسمعيني جيدا! كتبي التي يكسوها الغبار على مكتبك تميتني في اليوم ألف مرة فاستجمعت كل ما بقي لي من قوة لأتكلم معك.. لم يفت الأوان بعد، مفتاح نجاتنا في دقات قلبك الذي أصابه الوهن، اهتمي به أكثر حتى ينيره الإيمان مجددا فنحيا نحن....
ذهبت و كلامها كأسطوانة أعيد تشغيلها كل يوم، شددت العزم لأقف مجددا وبعد مرور أيام من النقاهة و محاولات جاهدة لاسترجاعهم:
-لقد خلت أني مت أيتها المعتوهة عديمة الفائدة.
-سأكسر رأسك إن فعلت هذا مجددا
-تنط و تغني* .. نعععم لقد عدت
-تبكي*....أنا خائفة من أن يحصل هذا مجددا
- لا أكترث حقا لكل هذا
-الحمد لله كل هذا بتوفيق منه
-سنساعدك كلنا و لن نتركك أبدا
- مررت في خاطري فكرة... عبرت ظلت الذكرى.. نسيت الحزن شوقا للغد الأفضل
-انتظري فقط حتى يجف طلاء أظافري و سترين
وهكذا استعدتهم.. استعدت نفسي ،اختفى شبح الوحدة وتبددت الغيوم الرمادية و الهدوء المميت و رغم أنه الخريف خارجا و الجو كئيب إلا أن هنا ربيع عبق الرائحة و أصواتهم عادت لتؤنسني كما اعتادت أن تفعل.
انتهى.
-أنا من أقولها...
-لا أنا من أقولها ...
-انتهت رحلتكم في كوكب انفصاااام.
" خيب ظنهم.. و كن أنت. أحلم.. واصل.. قاتل.. لا تقف، كن أنت بأي ثمن. لا تدعهم يشكلونك كما يريدون، لا تكن صورة لا تليق بك و شخصية لا تمثلك.. كن أنت فقظ أنت" من كتاب قل وداعا.
–الحكيمة-
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire