فتح حاسوبه و أمسك السيجارة رقم مئتان و ثمانية عشر الف وواحد و استنشقها بعمق... أشخص النظر بصورتها التي تجاور كأس الماء و حرك بصره بهدوء نحو شاشة الحاسوب، ثم كتب بيديه الباردتين: لغيابك طعم يشبه العلقم و خيالك الذي يرافقني في وحدتي هذه يخفف وطأ الحمى التي تصيب قلبي، ليتك كنت حقيقة أعانقها اليوم تماما كما كنتِ قبل عشر سنوات... ليتك لا تقبعين بذلك القبر المظلم الشبيه بشقتنا هاته في غيابك.
أغلق شاشة الحاسوب و وضع رأسه على المكتب و انفجرت قنابل دموع من عينيه...
قبل احد عشر سنة تقابلا ووقعا بالحب تماما كما يقع ابطال الأفلام، طلب يدها للزواج و وافقت بسرعة، هي لم تكن تدرك التعاسة التي تنتظرها تماما كما لم يتوقع هو بأنها ستغادره بتلك الطريقة، هو مدمن على المشروب و هذا كان عيبه الوحيد، لكنه رغم هذا كان مسالما، تعود ان يدخل بتلك الليالي بصمت، ليجدها قد غفت على طاولة العشاء و هي بانتظاره يتوجه نحوها و يقبل جبينها، يمسك يدها و يبكي... كان يبكي بحرقة كالطفل الصغير و يردد أحببتها اكثر منك، تكرر هذا المشهد أكثر من مرة و في كل مرة كانت تنهض بصمت تجهز له فنجان قهوة و تتوجه للنوم، أحبته بطريقة غريبة و عميقة، لم تستطع أن تكرهه ولا أن تسأله عن قصة التي أحبها أكثر منها، ذلك الحب الذي زرع بكلاهما حب الحياة هاهو اليوم يقتل كل شيء جميل بداخلهما، مع مرور الوقت لم تعد تنتظره كعادتها بل اصبحت تترك له فنجان قهوة و بعض الأكل و تتظاهر بالنوم، لكنه لم يكف عن عادته (تقبيل جبينها و النحيب بقربها مرددا احببتها اكثر منك) كان الأمر مؤلما بالنسبة له اكثر مما هو مؤلم بالنسبة لها، في بعض الأيام كان يعود في حالة طبيعية، يسألها عما حضرته للعشاء و يعاملها كما اعتاد ان يعاملها قبل زواجهما... كان متناقضا و كأنه مصاب بانفصام، لكنها لم تخبره بكل هذا بل فضلت أن تكتم كل ما يؤلمها من تصرفات حتى حل ذلك اليوم المشؤوم ذكرى زواجهما و ذكرى موتها الذي لن ينساه.
يقول:
أحببتها و بصدق لكنني لم افهم يوما طبيعة هذه النفس البشرية، كنت اكمل عملي باكرا و ازور قبر والدتي و أكسوه بورودها المفضلة، بعدها لا أدري ما الذي كان يحدث لي فدائما ما كنت أجد نفسي بسريري أعانق زوجتي، أحيانا كنت أعود للبيت باكرا و لم أكن اواجه مشاكلا في تذكر أي من هذا فقد كنت استمتع بوقتي، روائح الطعام التي تختلط بعطرها هي بالنسبة لي لحظات من النشوة التي ارتقي بها لعالم سعيد، لكنني في معظم الاحيان لم أكن أتذكر، أحيانا كنت استيقظ بمنتصف الليل مرعوبا لأسأل نفسي ما الذي احضرني هنا... كنت اسمع صوت بكائها القادم من الغرفة المجاورة، لم تكن تعلم بأنني أبكي معها، كنت خائفا و مرعوبا من حقيقة أنني قد أكون فعلت بها شيئا يؤذيني أكثر مما يؤذيها، استيقظت اليوم باكرا و غادرت المنزل مسرعا حتى اوفر بعض الوقت لأخطط لمفاجئتها بعيد زواجنا و الذي سيكون غدا، جهزت كل شيء باكرا و توجهت للمنزل مسرعا، كانت كعادتها تحضر العشاء و رائحة النشوة تملئ المكان، كانت امسية هادئة ابتسمت فيها اكثر من الأيام التي مضت، طلبت مني بصوتها الهادئ كن في الموعد غدا و لا تتأخر، قبلت يدها و وعدتها بذلك، في صباح الغد كان ينتظرني الكثير من العمل لهذا ارهقت نفسي و انا احاول انهاءه باكرا، حالما انتهيت اشتريت زهور امي المفضلة و توجهت لقبرها، أخبرتها بمدى اهمية هذا اليوم و بكييت كثيرا، بعدها لم اتذكر شيئا كأنني نمت بعمق، استيقظت صباحا لأجد نفسي بغرفتي و مكاني، حاولت تذكر ليلة البارحة لكن رأسي كان ثقيلا و شعرت بألم حاد، استغربت عدم وجود رائحة القهوة كعادتي، توجهت الى المطبخ ولا احد هناك، وجدت بعض الاواني التي بدا انها تخص العشاء، كان هناك خطب ما فزوجتي لا تترك أبدا اشياء كهذه، بحثت بكل الغرف علني أجدها لكنها اختفت و كأن الارض قد انشقت و ابتلعتها، لكنني حالما دخلت للحمام رأيت اكثر منظر مؤلم مررت به في حياتي، لقد كانت هناك ملقاة على الارض مضجرة بدمائها، عيناها بدتا متعبتين لكن ليس من الموت بل مني، لم أفهم شيئا، خانني صوتي، خانتني دموعي، عقلي توقف عن العمل، وجدت ورقة بقربها كانت قد شربت القليل من دمائها لتثبت لي بأنه حتى للورق مشاعر، قرأتها و كانت صدمتي...
الرسالة:
لم أستطع أن اعيش بهذه الطريقة أكثر، حاولت أن اجد لك الاعذار... وأردت بشدة أن اساعدك بمحنتك لكنك كنت مثل الصندوق المغلق، انت حقا لا تعلم كم مرة سمعت صوت بكاءك يتبع صوتي كسمفونية ألم بتلك الليالي الباردة، حينما كنت تعود أنت و اعراض الشرب بادية عليك كان الخوف يتملكني، لم أكن متأكدة من تصرفاتك و رغم ثقتي بأنك تحبني الا انني خفت من ذلك الشخص الذي تصبح عليه، حينما كنت تردد على مسامعي: أحببتها اكثر منكِ، كان قلبي يتمزق ألماً، حاولت أن أفهمك و أردت أن اسألك ولكنني خفت من اجابتك و خفت من نار الغيرة التي ستحرقني، اردت ان اتركك و أرحل لكن حبي لك كان عميقا و اكبر من أن اتجاهله بسبب شيء كهذا، أجل! أحبك اكثر من نفسي و من كل هذا العالم، لهذا أنا اعاني اليوم من تبعات هذا الحب، ربما لم اكن كافية لك... و ربما تلك التي أحببتها اكثر مني كانت الوحيدة التي ستكفيك... ارجوك لا تحزن على رحيلي هذا، فأن اتركك لأنني ميتة خير من أن اتركك لأهرب لمكان آخر... لا تنسى أبدا بأنني أحببتك بعيوبك و كرهت نفسي بمحاسني التي جعلتك تحبني ولو قليلا...
قرأ رسالتها و مع كل حرف كان يصرخ ب"لا" عميقة لينفي كلماتها الدامية، أراد أن يموت بتلك اللحظة بقربها لكن وفي لحظة غضب وعد جسدها البارد بأنه سيعيش ما تبقى من حياته لتموت روحه كل يوم من آلام الشوق و الحسرة و الندم و لوم النفس، كعادته هو انسان مؤمن بالفلسفة الروحية العميقة كأن يتمتع بالألم و يعشق الظلام... ربما كان هذا سببه الأول في تلك الاغماءات المفاجئة و الظلام الذي يطغى على عقله، هو لم يدرك يوما بأن ألم فقدانه لوالدته كان يوقف عمل عقله فاتحا المجال لعقله الباطني ولاوعيه للعمل، فيعجز عن التحكم بذاته و يتجه للشرب حتى الثمالة ليعود لزوجته باكيا مرددا احببتها اكثر منكِ، كان يحاول أن يشرح و لو للحظة لزوجته بأنه أحب والدته أكثر من أي امرأة اخرى... لكنها بدل أن تسأل فضلت الصمت و هو بدل أن يعترف صاحيا فضل أن يعترف بنوبات حزنه الغريبة... أجل! غريبة هي هذه النفس البشرية و كم هي مليئة بالتعقيدات الشائكة...
مرت عشر سنوات على رحيلها و بتلك الفترة لم يعد واعيا على العالم الخارجي، هو منغلق على نفسه بشقته التي فقد بها زوجته، يدخن في اليوم ستون سيجارة و مع كل سيجارة كان يلفظ أنفاسه الأخيرة، أنفاس روحه التي تموت مع كل سيجارة و تحيا...
أحيانا كان بابه يدق و تأتي الطرقات
تأتي الطرقات كأمل مزيف فكان يستحضر رائحة النشوة التي لازال يذكر عبيرها كذكرى سيئة تأبى الرحيل... لكنه لم يستطع يوماً الشبع منها، لأن الذكريات صنعت لتؤلمنا، تعطينا القليل منها لتذكرنا بجمال تلك اللحظات ثم تنسحب منا لترينا كم نحن تعساء.
بعد مرور عشر سنوات و في نفس الليلة رحل هو الآخر حزناً، غادرت روحه جسده الملقى على ذلك المكتب بعد أن كتب آخر كلماته: أحببتكما أكثر مني...
قابع في الظلام ق
RépondreSupprimerصة اكثر من رائعة بقلم المبدعة بوزيدي عائشة إكرام