" بَوح"
" الحب ماء الحياة " - جلال الدين الرومي -
كان مشغولا بالجدال مع ثلة من أصحابه حين سمع ذلك الصوت الملائكي يناديه، في دهشة التفت قلبه قبل قالبه، تعلق فؤاده بروحها قبل كيانها، التفت وهو لا يزال يسمع صدى صوتها يناديه، وكأنه يستمع لسمفونية عذبة
" زكرياء! "
ابتسم لإبتسامتها، وخطى باتجاهها في خطوات ترنح فيها كالسكير! - لقد كان بالفعل سكيرا من خمرة حبها -، اقترب منها أكثر فأكثر، وكلما اقترب منها زاد افتتانه وغرقه في بحر عينيها، ذات الشعر الأسود، القاتم والطويل كالليل الذي يعيشه عاشقها، بنية العينين، تائهة النظرات ومتكاسلة الخطى. تتعطر برائحة ورود باريسية يتسلل عبقها لكل من مر عليها، كثيرة الحركة بيديها الصغيرتين الناعمتين؛ فتارة تحشرهما في جيبي بنطالها الأسود وتارة أخري تزيح خصلات شعرها من على خدها الأبيض الجوهري.
مدت يدها باتجاه يده الكبيرة الخشنة ليضمها بين أنامله الضخمة، ابتسم الإثنان كالصبية الصغار، علق عينيه بعينيها لمدة من الزمن لم يرد أن تنتهي، تفادت نظراته وهي تحملق هنا وهناك، ثم تسللت يدها من يده بحركة غير مألوفة والإبتسامة لا تفارق محياها، لتنهي الهدوء القاتل بصوتها العذب كموسيقى حالمة :
- أين طال غيابك أيها الفتى !؟
قهقه في عفوية، كان يعلم أنها لا تعرف غيره من شبان الثانوية، أو بالأحرى تعرف البعض وتتواصل معهم، لكنها كانت تفضله عن غيره، تطيل حديثها معه دائما، حتى وإن كانت أحاديثها عن أشياء تافهة، إلى أنه كان يستمتع بكل ذلك، فلا تهمه المواضيع بقدر ما يهمه الغوص في عيونها والتلذذ بكلماتها وصوتها، ثم أجاب أخيرا وقد حول نظره عن عينيها :
- تعلمين أنني أكره الثانوية، لكن هذا لا يمنعني من الحضور لرؤية وجهك البشوش!
زادت البسمة من إتساع ثغرها، وعاد يركز مقلتيه في عمق عينيها وهما يتبادلان الإبتسامات.
بدأت تتحدث مجددا كعادتها عن هذا الموضوع وذاك وهو لا ينفك يبعد ناظريه عنها، يراها ملاكا بجناحين كظل الجنة، وعيون كماء زمزم الطاهر، إزدادت نبضات قلبه تسارعا حين تذكر أنه لم يخبرها شيئا يخفيه في عمق فؤاده منذ زمن، ملف غابر في سرداب قلبه، نسي أن يبوح لها بما يخالجه تجاهها من هيام، نسي أن يخبرها بأربع أحرف عن كل أسراره المدفونة داخله!
كان غارقة في الحديث والإلتفات، ضحك ساخرا ثم أمسك كلتا يديها وضمهما بين يديه وهو يضغط عليهما ليستجيب قلبها للنداء، هدأت..تعجبت..ثم ضحكت مجددا وهي تقول :
- أووه بدأت حركاتك الغريبة مجددا، ههه ازدادت غرابتك هذه الأيام أيها الفتى !
جعل يدها اليمنى فوق صدره، ونظر في عينيها بنظرة ليست كالنظرات السابقة، نظرة بوح .. ثم قال أخيرا :
- أتسمعين ؟!
كانت لا تزال مستغربة لحركته الغريبة تلك، ثم أردف قائلا بصوت يشبه الهمس :
- أتسمعين نبض قلبي .. إنه يتسارع بوجودك ! إنه ينبض حين يراك فقط، أتعلمين؟! إني لا أحيا إلى بك .. بوجودك، أنت من تجعلينني أبتسم و أضحك، أنت من تجعلينني أستيقظ كل يوم وحبك في قلبي لا يفارقه! أنت تسكنين هنا - وهو يشير إلى صدره بيداها - أصبحت دوائي .. أنت إكسيري، لم أعد أجيد النطق إلى إليك، ولا أعلم شيئا سوى أني أحبك!
ابتسمت وقد نزلت دمعة على خدها وكأنها قطرة من نهر الكوثر، تسللت يداها من بين أنامله كالعادة وتراجعت خطوة إلى الخلف ثم فتحت كلتا ذراعيها، لم يستغرق لحظة ليكون تائها في حضنها، غارقا بين ذراعيها كأنه طفل صغير تخبأه أمه من الوحش الذي تحكي عنه الجدة! ثم همست في أذنه بصوتها الموسيقي المعتاد :
- كنت ولا زلت أحبك أيها الأبله!
بقلم : رشيد سبابو
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire