ريف آخر___________________
لنعد إلى الدّهر نشكو له بعض ضياعنا...ربما نجده في مقهى معيّن ...ربّما في فندق..ربّما في شارع من شوارع المدينة يتسوّق..فقد إعتاد المخالطة ولا يحب الجلوس وحيدا...لكن ماذا لو وجدناه ثملا كالعادة....؟
لنركض كما لو أنّ أحدهم يتبعنا...نركض كثيرا..ربّما نسبق خطواتنا يوما ما....ربّما نمسك الشمس بأيدينا.. أليس المستحيل مبتغانا...؟
لنهتف باسم الآلهة.. من يدري ربما ستحنّ علينا قداستها...ستغيثنا...تلملم شظايانا المتفرّقة...أليس القدر كائنا يتنفس مثلنا؟
لنفرغ دلاء البوح...نفرغها كلها...ونملؤها بالفراغ الهادىء...ونضعها جانبا ..ثم نعود إلى البوح، نراه كيف تمخره الجراح ....أليس البوح نجاتنا والكتمان جسد آخر يعترض تأملاتنا وتطلعاتنا؟
لنعد كما كنّا منذ البداية ...نتذكّر التفاحة..الغراب...ونبني من الخيانة جسر مأمننا....جسرا يكون امتداده من ألف إلى نهاية الأبجدية....لماذا لا نكتب النهاية بأنفسنا....ولماذا البداية تكون دائما سلطة عليها؟
لنبكِ قليلا...نخب البكاء..نخب الشقاء والتعاسة...نخب كل من رسم طريقنا بريشته...ولون تعوجاته بألوان قاتمة...لنبكِ عسى نخفف عنا قليلا...وبعد البكاء نختبىء من شبح الهروب الذي يطاردنا في كل لحظة....أليس هذا الشبح ملتحي ويفوح منه المسك....؟...أم أنه مجرد تمثال نحته سياسي جبار ونفخ فيه سياسته؟
أتدري يا عمر....نحن نكتب ما نراه في غيرنا فقط...ما يمليه المحيط والمجتمع فقط...ما نسمعه من حكايات وأساطير...نحن لا نكتب عن ذواتنا....ذواتنا الآن تنزف ألما....لا أحد يعرف مكنوناتها..لا أحد يقدر حجم الألم الذي يعتريها وهي تقرأ كتاباتنا....
أتدري يا عمر...الرسام حينما يرسم وردة....هو لا يتصوّر تلك الوردة...بل يتصور ذاته...فيمزجها بالخطوط والألوان...وحين يكتمل الرسم...يعيبها لنقصها...فيرسم وردة أخرى...أو ألف وردة دون أن يتوقف عن الرسم..فهل تتصور أن الريشة هي التي لم تحسن الدقّة والتفاصيل...أم هل تتصور يا عمر أن الذات يمكن أن تتشكل في الوردة؟
لقد بردت القهوة يا عمر وأنا شغلتك عنها بفلسفتي.....
نخبك يا عمر.....وهو يشير إلى صورة معلقة على جدار غرفته...وهي الصورة الوحيدة التي أحتفظ بها منذ انتقاله للمدينة هروبا من الريف أو من خاطفي الأرواح....
الريف الذي شكّل له فضاء منغلقا...باردا..لا حياة فيه سوى الموت الذي يترصده في كل لحظة...الموت الذي يمارس لعبته بكل حرية بعيدا عن كل قانون يجرم لعبة الموت الحقيرة....فحتى حرية الموت ترتبط بالموت فقط..وليس بالأشخاص...فلا يمكن لأحد أن يختار كيف يموت..بل ينتظر فقط ريحا عاتية تسقطه من شجرة الحياة كورقة ذابلة....
فقد أضحى الريف نفقا معتما...لا سلاك منه...وان كان هناك احتمال...فهو مجرد العيش ليوم آخر..أو لشهر...أو لألف عام...العيش فقط لا الحياة...لأن الحياة مرتبطة بوجودنا كبشر...بينما العيش مرتبط بكل الكائنات الأخرى أين ينعدم الإختيار....
لا عليك يا عمر ..يوما ما ستكبر وتكتشف أن الريف الذي كنت أحدثك عنه والذي أنفر منه ليس ريفا حقيقيا...لكنه ريف استطاع أن يكتب نفسه لسنوات عديدة...استطاع أن يفرض نفسه في داخل كل واحد منا...فكان الهروب الذي يترصدنا إلى جانب الموت محتوم علينا ....استضفناه كضيف كريم بعدما كان النجاة منه أملنا الوحيد....
ستعرف يا عمر أن الشبح الذي كان يطاردنا في الريف بات يطاردنا في المدينة أيضا....ولا أنكر عليك يا عمر...أن ما عشته من سنوات في الريف أكسبتني الصبر والمرونة...وعلمتني كيف أنظر إلى الموت من زاويته الأخرى ...وإلى العيش كحتمية البقاء...والحياة كتلك الوردة التي لا يحسن رسمها رسام عصامي....
تناول قهوتك يا عمر...ففي القهوة أيضا حكايا أخرى....ستقرؤها حين تكبر....
أ/سركاستي موراد..22/04/2020
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire